كان عبدالعزيز الخضر هو القائل في العبارة الختامية -وبما يلخص دافعه البحثي- من سفره التوثيقي الضخم: السعودية؛ سيرة دولة ومجتمع (منشورات: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010) : “هناك جيل كبير من أبناء جوجل (Google) كثيراً ما تطلع على آراء المعارضة والتطرف بكل أنواعه في معرفات المنتديات .. هي تتسرب وتنتشر أكثر من السابق دون أن يعي الكثيرون الإطار التاريخي لها؛ فبعضهم يكرر أخطاء سابقة وفاشلة وآخرون يتورطون في اتجاهات سرعان ما يكونون ضدها … ولهذا وجدت أن من الضروري تناول بعض هذه القضايا هنا [في كتاب سيرة دولة ومجتمع]”.
كلما دخلتُ في سجال خاطف مع أحد الشباب الجديد عن معركة الحداثة-الصحوة، خلصنا في اتفاق شبه حاسم الى أن المنحى الكارثي الذي آلت اليه المعركة في نهاية الثمانينات الميلادية انما صار لتدخل السياسي وانحيازه للأيديولوجي على حساب تغليب المعرفي، فيما كنا نتفاوت في المقابل في حساب قدرات رموز تيار الحداثة –وقتها- على مقارعة حُجج تيار الصحوة الموجّهة ازاءهم، ومن المنهج التراثي نفسه.
ثمة من يرى أن تيار الحداثة كانت تعوزه المعرفة التراثية التي تجعله مؤهلاً لخوض معركة تأسيسية أو تأصيلية من داخل مرجعية التراث نفسه، فيما أرى أنا خلاف ذلك، مستعيناً بمواقف بعض رموز التيار التي كانت على دراية واسعة بالتراث الفقهي واللغوي، اما تلك التي أخذتها مناولةً أو تلك التي تتنوع مصادر تكوينها المعرفي.
كانت الحداثة حركة انقلاب على التقليد الأدبي (وتصوّرات الذهنية الإجتماعية) وجدت في الملاحق الأدبية للصحف والمجلات والمناسبات الثقافية –محلياً وعربياً- مساحات فسيحة للتعبير والترويج عن نفسها، فيما دخلت الصحوة بدورها على خط رواجها ذلك وتصادمت معها كردة فعل ساخطة –وحتميّة-، عبّرت عن نفسها بوسائلها الخاصة في شرائط الكاسيت والتسجيلات الإسلامية، والمطبوعات الدعائية، وعلى منابر المساجد.
لست هنا لإصدار أي أحكام قيمية نهائية عن أي فريق، خصوصاً أن لكلٍ أخطائه وسقطاته – وأوهامه .
فالحداثة في مساعي انشغالها بالإنقلاب على السائد والإنفكاك عن إسارات التقليد، ألغت واستبعدت الرموز الرائدة المؤسِّسة للأدب السعودي، وأوغلت في مصادرة الآخر حد ممارسة الوصاية والاستخفاف بالتيارات التقليدية والمُحافظة، وتيار الصحوة بدوره بادل ذلك الإستخفاف باستسهاله الفادح للمناهج العلمية ومجافاته لقضية التأسيس المعرفي، واعتماده على ممارسات الرماية عن عماية في التكفير والرمي بضلالات الردّة والإلحاد والعمالة للتيار الخصيم.
وفي هذا السياق يكاد يستحضر الكثيرون كتاب الحداثة في ميزان الإسلام لعوض القرني (1988)، الذي قدّم له فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز، والذي يُعتبر بمثابة الكتاب الذي استحال منشوراً دعائياً [مكارثياً] تم من خلاله ادانة تيار الحداثة بأكمله، وتجريمه في الوعي والوجدان الديني (والجماهيري المحافظ)، واستطاع التأسيس لحقبة انفرد فيها تيار الصحوة بالمشهد إلا من محاولات نديّة يسيرة.
غير أن قلة قليلة تعلم عن الرد الذي كتبه الشاعر محمد العلي وقتها تحت عنوان قراءة ساخنة في كتاب بارد ونشره على حلقات في صحيفة الوطن الكويتية (1989)، وهو الرد الذي أتى أصوب معرفياً، وان أقل تأثيراً. (لم يكن ذلك ضرورياً، كوننا نستدعي سياق تم تغلييب الأيديولوجي فيه على المعرفي).
ان تقديم مقتطفات وإلماحات -ولو رمزية وخاطفة- من أبرز محطات السجال بين تيار الصحوة والحداثة كما رُصدت في سجال القرني-العلي يفيد في قضية تأسيس الإطار المعرفي للأجيال الصاعدة (والتي أنتمي شخصياً اليها).. انها ترفدنا بمصل المناعة، أو كما يذهب الخضر؛ كي لا نعيد اجترار أخطائنا جيلاً بعد جيل:
1- عوض القرني (الحداثة في ميزان الاسلام) : “ان الحداثة في أصلها ونشأتها مذهب فكري غربي ولد ونشأ في الغرب، ولاشك أن الحداثيين العرب حاولوا بشتى الطرق والوسائل أن يجدوا لحداثتهم جذوراً في التاريخ الإسلامي، فما أسعفهم إلا من كان على شاكلتهم ممن كان ملحداً أو فاسقاً أو ماجناً مثل: الحلاج، وابن عربي، وبشار، وأبي نواس، وابن الراوندي، والمعرّي، والقرامطة، وثورة الزنج”.
– محمد العلي (قراءة ساخنة في كتاب بارد) : “هذا نص عابث سأقف عنده وقفة جادة مركزاً على ما يلي:
– من الحقائق التي أصبحت لا تقبل الشك، أن النهضة العربية الحديثة يرجع أحد بواعثها الى الاتصال بالفكر الأوروبي الحديث، وما أخذ به نفسه من تنظيم علمي وقواعد فلسفية.
– لا يمكن على الاطلاق أن يهاجر مفهوم من ثقافة الى أخرى ثم يبقى على وضعه الأول، ذلك لأن الرؤية الفكرية أو الوجدانية في الثقافة القاطنة تتدخل حتماً في صبغ المفهوم المقتطف بلونها الخاص. ذلك لأن البناء النفسي والفكري والعاطفي الذي يتدخل في صياغة الرؤية مرتبط بالواقع، لا بالخيال، لذا فمفهوم الحداثة مثلاً مُختلف في ذهن أي عربي بالضرورة عن أي غربي.
– يبدو أن السادة القرني [يسمي العلي عوض القرني بالسادة لاعتقاده أن مؤلف كتاب الحداثة في ميزان الاسلام مجموعة أسماء] لم يقرأ شيئاً من الكتب النقدية ذات الرؤية الإسلامية، لذا تراه يهاجم التأثر بالرؤية الصوفية، بدون تحديد لمفهوم هذه الرؤية في أدب الحداثة، هذا التأثر الذي أشاد به المفكر الإسلامي محمد قطب في كتابه (منهج الفن الإسلامي – ص 89 ) معللا ذلك (بامتلائهم بالنور)”.
2- عوض القرني (الحداثة في ميزان الاسلام) : “من صور الاستهزاء بهذا الدين، ما كتبه محمد العلي في مجلة الشرق، عن المُغنّي معبد، وعن أزمة الفن كما يقول في بلادنا، والتي أورد فيها فكرته بأسلوب ساخر بطريقة المسلمين في حفظ السُنّة النبوية الكريمة حيث قال: حدثنا الشيخ إمام عن صالح بن الحي، عن سيد بن درويش عن أبيه .. الخ هذا الحديث الذي نسجه من خياله العلمي. ألم يجد طريقة يتحدث فيها عن الغناء والمغنين إلا أن يُقلّد سند حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل يقلد الحديث في ألفاظه؟”
– محمد العلي (قراءة ساخنة في كتاب بارد) : “أيها السادة القرني اقرأ هذا النص: “أخبرنا الحسين بن يحيى، عن حمّاد عن أبيه، عن المسيبي، ومحمد بن سلام الجمحي، وعن الواقدي، وعن ابن أبي الزناد ..الخ. قالوا: أول من غنّى بالعربي بالمدينة طويس، وهو أول من ألقى الخنث بها. قالوا: وسُئل عن مولده، فذكر أنه ولد يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفُطم يوم مات أبوبكر، وزُوج يوم مات عمر، ودُفن يوم مقتل عثمان.. كما ذُكر في الأغاني، والكامل للمبرد، وطوق الحمامة، ومروج الذهب، والإمتاع والمؤانسة، وغيره”.
3- عوض القرني (الحداثة في ميزان الاسلام) : “في صحافة الجزيرة العربية، مهبط الوحي، ومعقل دعوة الإسلام، يُقدم محمود درويش الشيوعي الملحد لشبابنا على أنه أعظم شعراء العربية قاطبة، دون أن يُنبه على ما فيه من داء عضال”.
– محمد العلي (قراءة ساخنة في كتاب بارد) : “هذا اعتداء على مبادئ الإسلام للأسباب التالية :
– لأنه كفّر أشخاصاً بعينهم، وأسمائهم، و(الذي لا يجوز تكفير شخص بعينه، أو بإسمه، إنما الكفر يكون على الأعمال فقط) كما جاء في رسالة البهنساوي – الحكم وقضية تكفير المسلم.
– قال شيخ الاسلام ابن تيمية، في مجموعة الفتاوي، الجزء الثالث : (أصول أهل السنة: أن الدين والإيمان قول وفعل، وأن الايمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ومع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعل الخوارج)”.
4- عوض القرني (الحداثة في ميزان الاسلام) : “مما يؤكد لنا حرب الحداثة للإسلام والأصالة، وعدم وجود أي ربط بينها وبين ماضينا ومجدنا وتاريخنا، خلو جميع إنتاجها الأدبي والفكري من أي إشارة الى القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح”.
– محمد العلي (قراءة ساخنة في كتاب بارد) : “هذا النص سأحيله إلي صياغة منطقية هكذا:
أدب الحداثة يخلو من الكتاب والسنة
كل أدب يخلو من ذكرهما فهو يحارب الإسلام
أدب الحداثة يحارب الإسلام!
هذه المقولة يمكن أن نلمس تهافتها لمساً مما يلي:
– يقول المفكر الإسلامي محمد قطب في كتابه (منهج الفن الإسلامي) ص 119 : ( وليس من الضروري أن يتحدث الأدب الإسلامي عن الإسلام وحقائقه، وعقائده وشخصياته، وأحداثه، وان كان من الجائز بطبيعة الحال، أن يتناول كل هذه الموضوعات، ولكنه يتناولها كما يتناول الوجود كله، وكل ما يجري فيه من زاوية إسلامية، ويستشعرها بحس إسلامي).
– الناقد الإسلامي الدكتور أحمد بسّام سباعي في كتابه (الواقعية الإسلامية في الأدب والنقد) فضّل كثيراً من نماذج الشعر الغربي على الشعر “الإسلامي”، لأن الغربيين استطاعوا أن (يتخلصوا من الأسلوب الوعظي المباشر المعروف عند معظم شعرائنا في الشرق)، بل يذهب الى أبعد من ذلك فيعتبر أن بعض الشعر الجاهلي يحمل الروح الإسلامية، ويُقسم الأدب تقسيماً فكرياً لا زمنياً”.
5- عوض القرني (الحداثة في ميزان الاسلام) : “ان أول ما يصدم القارئ لأدب الحداثة هو تلفعه بعباءه الغموض، وتدثّره بشعار التعتيم والضباب، حتى إن القارئ يفقد الرؤية. إن من يقرأ أدب الحداثة يقع في حيرة من أمره، لمن يكتب هؤلاء وماذا يريدون؟”.
– محمد العلي (قراءة ساخنة في كتاب بارد) : “هل تستطيع أن تدلني على مفردة واحدة، من المفردات التي دخلت الاستعمال لأول مرة؟ ان تفسير النص لا بد أن يكون منبثقاً من النص نفسه أي من سياقه اللغوي، والنفسي، والنوعي. فالبلاغة ضروب ومنها بلاغة التأويل، التي تحوج لغموضها الى التدبر، والتصفح، وبهذه البلاغة تتسع أسرار المعاني، كما يقول أبو حيّان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة. فبلاغة التأويل لا تعني القدرة على الفهم وحسب، ولكن تجاوز أفق النص نفسه الى دلالته الضمنية، والتي منها ما لم يقله النص”.
* ليس في تسمية أبناء جوجل أي حمولة سلبية أو تبخيسية .. فالشباب الذين يفيدون من أدوات الإعلام الجديد يصنعون انطلاقاً منها قيماً وأنساقاً جديدة على مستوى الوعي والواقع والشارع العربي، بل ان من المفارقة اللاذعة أن يكون أيقونة الثورة المصرية (العربية) الجديدة، وائل غنيم، هو أحد مُدراء شركة جوجل- الشرق الأوسط!
يجب ان نرى المزيد من هذه القراءات التفكيكية لنلم بمعالم المرحلة ونفهم كيف آلت الامور . شكراً لانك تستعرض تاريخاً مررنا عليه مرور الكرام.
رغم أنني قرأت كتاب الخضر إلا أن الكاتب اورد الضفة الثانية وتناسى الضفة الأولى في الإيراد وبالتالي يكون المقال موجها ..
لك أجمل تحية أستاذ محمود.
أعتقد أن قراءة ذلك التاريخ بهذه الطريقة مثري جداً لأجيال قوقل، وإن كان فيه قدر كبير من الجزئية التي قد لاتفيد سوى الباحثين. ما أعتقده وأراه كأفضل طريقة للكتابة وتوفير الإطار التاريخي هو بالكتابة عن التجربة نفسها ممن عايشوها كما ابتدأ الغذامي بحكاية الحداثة، وكما فعل الخضر مؤخراً في حكاية الدولة والمجتمع، وكما يجب أن يفعل كل من عايش التجربة ، ومن غير هذا سيكون من الصعب تقييم الموقف آنذاك وتأطيره في إطاره التاريخي اللائق.