يا دُنيا، يا.. “غراماتي” !

انها بدايات عام 1965م.. نحن ازاء ندوة غير مسبوقة بالإذاعة السعودية؛ موضوع ساخن عن “المرأة”، ومتحدثون نجوم، ضمن أجواء استثنائية صاخبة – استحالت كلها.. وكما يُمكن أن نُخمّن.. الى نتائج كارثيّة!

كان قد مَضى عامٌ كامل على اقرار مشروع نظام المؤسسات الأهليّة للصحافة، الذي أرادت منه الحكومة ظاهراً “تطوير أوضاع الصحافة”، فيما كان يروم في جوهره تقييد حركة الصحافة وإخضاع مناشطها لسيطرة الرقيب.

وبعد أن ظفرت الصحافة الوطنيّة المُستقلة [نهاية الخمسينات الميلادية، وبداية الستينات] بهوامش عُليا واستثنائية في حرية التعبير، وجرأة النقد ودفقه، وانتزعت حق مناقشة قضايا سياسية أساسية مثل مناقشات أنظمة الدستور وإصلاح نظام القضاء، رضخت الصحف لمزاج المرحلة العام، بعيد صدور النظام الجديد، حيث اشتداد أوار أزمات الخارج وخلافات الداخل على السواء.

لحظة صدور مشروع نظام مؤسسات الصحافة الأهليّة – 3 يناير 1964 ، من صحيفة أم القرى

ولكن الإذاعة بقيادة معالي الشيخ جميل الحجيلان، ستخطو خطوة جريئة، لا تتسق ومزاج المرحلة- بفصول أزمتها ووتيرتها المتوّجسة وضغوطها الشديدة على الحريات – في طرحها لبرنامج جديد بإسم ندوة الأسبوع؛ وهو برنامج أسبوعي سياسي ساخن، أراد منه الوزير الحجيلان، استشراف المُستقبل ورسم أُطره، بإستضافة لنُخبة من نجوم صناعة الرأي العام حينها، ليتحدثون بحريّة، وصِدق، وموضوعية، دون أدنى رقابة!

وبعد أن مرت الحلقة الأولى، التي خُصصت لقضية الاقتصاد والتنمية، جاء موعد الحلقة الثانية التي كان موضوعها “المرأة ودورها في المُجتمع المُسلم” .. وجاء الحجيلان -الذي كان يُعد البرنامج شخصياً فيما يُقدمه المذيع النجم عباس غزاوي- بنخبة النُخبة. فكان يقف في صف تحرير المرأة واطلاق حُرياتها بلا حدود؛ أحمد السباعي شيخ الصحافة وأحد آباء التنوير بالسعودية، والشيخ السلفي فيصل المبارك، والشاب الصاعد حينها د. عبدالله منّاع، فيما يقف في صف تقنين دورها حد مُصادرته كاملاً، الكاتب الإسلامي أحمد محمد جمال، والأستاذ عبدالعزيز الرفاعي.

كان البرنامج يُناقش في صخبٍ شديد حقوق المرأة في التعليم والعمل والمشاركة في مناشط الحياة العامة، دون حُجب أو ممانعات. ويروي منّاع في مذكراته بعض الأيام.. بعض الليالي أطرافاً من تلك الندوة الساخنة بين جناحيّ “الإعتدال” و”التقدم”، حد أنه دُهش من “رؤى الشيخين المُبارك والسباعي في حق المرأة في الخروج لقضاء حوائجها.. واستخدام المواصلات العامة، وان احدهما -السباعي- لا يرى حُجّة في “النقاب” اذا احتشمت المرأة، وانه يستدل بما كانت عليه أم المؤمنين عائشة عندما كانت تخطب في باحة المسجد الحرام تستحثُ أنصارها لموقعة الجمل”.

أثناء تسجيل الندوة الإذاعية (الأزمة)، عن المرأة، عام 1965م، ويظهر فيها: أحمد جمال، وعبدالله مناع (بالقميص)، وعبدالعزيز الرفاعي، فالشيخ المبارك، وأحمد السباعي، وعباس غزاوي، والوزير الحجيلان. (الصورة من أرشيف عبدالله منّاع)
 

لقد أحدثت الندوة بعيد بثّها دوياً هائلاً، فاق تصورات القائمين على الإذاعة، وكل المُشاركين، وأسست لسابقة جديدة في تاريخ الرقابة المحليّة.

كانت ردة الفعل الرسمية قاسية ومنحازة لجناح دون آخر. فمُنع جناح “التقدم” (السباعي والمبارك والمناع) من الكتابة أو التحدث في وسائل الاعلام، عقاباً على آراءه “التقدميّة” الصريحة. وصدر قرار بإبعاد الشيخ المُبارك الى بلدته حريملاء، وتغريم الشيخ السباعي بدفع مُرتبيّن، رغم مكانته الثقافية والإجتماعية الكبيرة، وتم توجيه توبيخ شديد اللهجة من وزير الصحة للمنّاع كونه كان يتبع ادارته حينها، الى جانب دفعه غرامة تساوي مرتب شهرين، يتذكر المنّاع تلك العقوبة القاسية والمريرة -والمُذلة- بشئ من الأسى، قبل ان يعتبر ان عزاؤه الوحيد كان تحلّق زملائه بوزارة الصحة في الرياض حوله، اذ كتبوا له، يشدّون على يده ويعلمونه بأنهم سيسددون عنه الغرامة باقتسامها فيما بينهم، وقد كان!

اذا كان صدور نظام المؤسسات الأهلية للصحافة (1964م) يُعتبر بداية النهاية لعهد استقلال الصحافة، فإن عقوبات وغرامات ندوة الإذاعة (1965م) كانت الاختبار الأول في ذلك المُنعطف الطويل.. حتى يكاد يُقال: ما قبل “ندوة الاذاعة” وما بعدها !

الإعلان
هذا المنشور نشر في من تاريخ الصحافة. حفظ الرابط الثابت.

2 Responses to يا دُنيا، يا.. “غراماتي” !

  1. عبد الملك فراش كتب:

    جميل ان يتذكر أديبنا الشاب الاخ محمود لمحات من تاريخ كبار أدبائنا أمثال الرائد الكبير الشيخ أحمد السباعي رحمه الله
    والاستااذيين المرحومين أحمد جمال والاستاذ عبد العزيزز الرفاعي رحمهما الله. والاديب الطبيب عبد الله مناع “أمد الله في عمره ” وسيظل جيلنا يتذكر الشيخ السباعي وسبقه في أنشاء مسرح سعودي في مكه المكرمه .وإإغلاقه يوم افتتاحه .واألشيخ خ المرحوم أحمد جمال رغم سلبية موقفه في تعليم البنات والحجاب .فهو له مواقف وطنية تذكر وتشكر. أما أديبنا الاستاذ عبد العزيز الرفاعي فكان موظفا منضبطا وكان دمث الخلق خ وسعيه الدؤوب عن طريق مكتبته الصغيرة لنشر ألأدب.والعجيب في القصة أن الوزير جميل الحجيلان لم يتلق لوما ولا غرامة.وعفي الله عما سلف /فنحن اليوم نفتخر بهامات وقامات نسائية علمية وطبية وسيدات أعمال وموظفات دوليات رفعن رؤسنا في المحافل الدولية والمنتديات الطبية .وهي قصة تدرج مجتمعنا علي سلم التقدم والارتقاء والحمد لله

  2. “والشاب الصاعد حينها د. عبدالله منّاع” 🙂
    سيأتي يوم بعد 20 او 30 سنة بمشيئة الله تعالى و سنقرأ لمن يشير لك معجباً بنباهتك و ببلاغتك يا محمود انت و بقية الشباب الوطني النهضوي الذين نفخر بهم بنفس الطريقة. و الأمل ان تكون جهودكم حينها قد نجحت في خلق وعي وطني جديد ان شاء الله

    و أعود إلى التدوينة، مع الأسف فإن حقبة الستينات تحت حكم الملك فيصل تحديداً أضاعت علينا فرصة الحصول على دولة مؤسسات حديثة و رسخت للإستبداد. ففي عهده تم وأد مجلس الشورى بعد أن تم قبلها وأد فكرة إنتخاب أعضاء المجلس و إعطائهم صلاحيات لمناقشة و التصويت على النظام الأساسي للحكم و هي الفكرة التي طرحت و نوقشت في الصحافة في عام 1963. و في نفس الحقبة تم سجن الكثير من الأدباء و الكتاب و أصحاب الرأي و أجبر بعضهم على الرحيل إلى خارج المملكة. ربما كان السبب في هذا الإستبداد حينها هو الخوف من مصر عبدالناصر لكن اليوم لا توجد مبررات لإيقاف عجلة الزمن.

    هذه التدوينة و تدوينة الإنتخابات البلدية تثبتان بأن ثمة ممارسات ديمقراطية و مدنية حديثة عرفت طريقها إلى المملكة في أزمنة مبكرة. ليس هناك مانع جيني أو عقلي يمنع السعوديين من تكرار هذه الممارسات. الأمر يتوقف عند رغبة القيادة و ليس ثقافة الشعب

    دمت بخير

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s