وما أعمق احتياط الطبيعة.. التي لم تجعل للثورات قانوناً ثابتاً، كي لا يضيع هاجس الانسان بالتغيير…
بهذه المقولة اريد ان افتتح مداخلتي التي سأستعرض فيها اربع تحديّات:
-١-
اخطر ما يواجه الربيع العربي هو الإنزلاق في فخ الأوهام واليوتوبيا. سقط جدار برلين فتهاوت الأنظمة الشيوعية كأوراق اللعب. جاء ليخ فاونسا كرئيس لبولندا، احدث تغييرات، ثم بعد سنوات عاد الشيوعيون للحكم من جديد من بوابة الديموقراطية -وتراجعت شعبية فاونسا الى حد أدنى من الجنرال الذي كان قد اُسقط من قبله – والسبب – كما يضعه الفيلسوف سلافوج زيزيك -عدم واقعية التوقعات، وعجلة وسطحية التغييرات في النظامين الاقتصادي والاجتماعي.
حين يقول الملياردير المصري نجيب سويرس في تغريدة على تويتر: “ليس لدى أى شك أن مصر تتجه بخطوات متسارعة نحو إفلاس قريب” – فهو يتغافل عن الجانب الاكثر توحشا اذا ما اكتفت هذه الثورة على أنصاف حلول!
مصر اليوم تدفع أثمان فادحة من دخلها القومي.. ولكن يجب ان يكون هناك اتفاق -والتزام اخلاقي- ان هذه آلام الطلق والمخاض.
فليستمر منطق الاعتصامات والضغوط والحشود والغليان حتى تصل الثورة لنقطة توازنها المأمولة وتحقق اغلب مكاسبها.. وأعلاها الحرية!
الصبر على مرارة الدواء تقي من معاناة الادواء. والصبر على غرس المقدمات الصالحة، يثمر النتائج الخصبة اليانعة..
فلنتخيل على سبيل الإستشراف مصر حرة. هذا رصيد عظيم – هو ليس رصيد اخلاقي وحقوقي فحسب – بل رصيد اقتصادي معيشي أيضاً!
وليست هذه رؤية رومانسية!
كنت قبل أسبوعين في محاضرة لفرانسيس فوكياما بلندن: سأله احدهم ايهما اهم التنمية ام الحريات؟
أجاب إجابة قاطعة: قال ان وادي السليكون بكاليفورنيا حيث قاعدة الابتكار وشركات الدوت كوم والتقنية كانت ارض حريات تاريخية من تمركز جماعات يسارية الخ. المناخ الحر هناك انعكس في قيم ابتكار وابداع اثمرت صناعة صلبة وواعدة – هذه الميزة التنافسية التي ينفرد بها وادي السليكون دون بقية الحاضنات المثيلة بالصين او الهند!
فما بالنا ومصر تاريخياً هي مصر ثورة ١٩١٩ ومصر اول واحدث الدساتير في الاقليم وارض النهضة العربية والوفد والليبرالية الوطنية كما عند لطفي السيد باشا وسعد زغلول وطلعت حرب والاقتصاد المعرفي الذي وضه نواته الاخير منذ وقت باكر..
الإحباط الآني يجب ان يواجه بالصبر والواقعية. عقود من الاستبداد وحكم القبضة الحديدية لا يمكن ان يُجبر في ايام… يجب الصبر على هذه الثورات.
من المهم ألا تكون هذه الثورة منذورة للخيانة.. فيتم تجاوز الأفكار والأهداف التي ثار الناس لأجلها واصطف الحشود بالملايين إيماناً بها. نصف ثورة هو خيانة.
وخطر الوقوع في فخ الأوهام واليوتوبيا يستلحق تحديان: سياسي.. وآخر اقتصادي-اجتماعي…
في المستوى السياسي:
هناك الخشية من ان تقع اقطار ما بعد الثورة في فخ الديموقراطية العاجزة. وهو ان تكون هناك انتخابات حرة ونزيهة ولكن ان تسعى الأكثرية الغالبة الى تقليص الحقوق والحريات، وتقويض المجتمع المدني واستخدام الديموقراطية كسلم للنفوذ السياسي، وإدخال الأمة من جديد في عتمات النظام الديكتاتوري.
اي الانزلاق في مطب النموذج الروسي لا الايراني كما يروّج راهناً!
البناء المؤسسي سواء على الصعيد الرسمي او المدني يجب ان يستوعب عوامل الفعالية الاربعة للمؤسسات كما وضعها استاذ النظرية السياسية الراحل هنتغتون: المرونة، الامتلاء المعرفي، الاستقلال، والتناغم… هذه ضمانات مجربة في الدوائر الحضارية الغربية- ولا يضير الغَرْف منها.
في المستوى الإقتصادي:
نحن نعلم انه منذ ٢٠٠٦ شهدت مصر معدلات نمو في اقتصادها بلغت ٧٪ سنويا. وامتثلت لشروط صندوق النقد الدولي بتفكيك السياسات الاشتراكية المركزية مقابل الحصول على قروض.. وقامت باصلاحات عدة تنسجم مع متطلبات السوق الحر.. ولكن هذا الاصلاح الاقتصادي بصورته النيو-ليبرالية المتغولة خلف عذابات وفاقم من مرارات الطبقات المتضررة.. حد ان فريد زكريا في قطعته بمجلة التايم قبل سقوط مبارك باسبوع (٣ فبراير)؛ اعتبر ان مقاصد الاصلاح الاقتصادي بصيغته النيو-ليبرالية المتغولة خدمت كبار التجار والاوليغاريشيات المحتكرة، ثم انها رفعت التوقعات لدى الطبقات المتوسطة، ومن ثم لم تلبيها، ما عنى ازدياد التوتر والاحتقان الذي أدى للانفجار والسخط الثوري.
مصر بعد الثورة هنا يجب ألا تعيد تكرار اخطاء السياسات السابقة في تفويض الحكومة لرجال اعمال حصرا.. بل تطرح قوانين ومحاكم وآليات اكثر عدالة وكفاءة وحدب على الإنتاجية.
-٣-
التحولات تخلق فرص. اقتناص الفرص يُعد تحدي.
من ملامح الربيع العربي : الانقلاب على المؤسسات والأحزاب التقليدية، والقطع مع منطق الاستقطابات التقليدي الحاد !
الثورة انطلقت من بائع متجول ومن ثم تلقفها جمهور بتراتبية أفقية يحمل فردانية عالية – لا نخبة او حزب او ضباط او قيادات… في تونس ومصر الى اليمن وسورية الانتفاضات لم تكشف عن استقطابات فئوية!
في ميدان التحرير سقط منطق التكتلات التقليدي ومنطق التقسيم الاستقطابي الحاد لصالح عقيدة وطنية: هي ثورية في مطلبها للتغيير، براغماتية في نظرتها لنفسها ومكوناتها.
لقد تحالف اليمين التقليدي مع كتل اليسار التقليدي (القوميون والاشتراكيون والعلمانيون والليبراليون) ..
وفي السعودية لم يحفل الشباب في عرائض مطالب الاصلاح والتغيير المقدمة للملك في ٢٤ فبراير و ٧ مارس، بلعبة التيارات القديمة. بل تجاوزوها نحو خطاب وطني مستقل جمع كل الأطياف على هاجس مشترك للتغيير.
الاخوان في مصر وحزب النهضة في تونس، ومن هم اشد منهم مثل السلفيين اصحاب ماضي العنف القريب، يجب ان يمسهم هدير التحول هذا – هم ازاء فرص تاريخية حتى يعبروا عن انفسهم بأشكال حديثة ترضخ لمنطق وواقع التحالفات الجديد.
في اوروبا تتجه نحو اليمين: نشاهد الاحزاب اليمينية الحاكمة في اوربا، وقد اقتبست كثير من القيم والمكونات اليسارية المعروفة حتى باتت جزء أصيل من برامجها الحزبية الثابتة مثل اشتراكية العمل والأجور، وحقوق الأقليات- حد ان زعيمة اليمين الالماني أنجيلا ميركل في امريكا صوّرت على انها يسارية راديكالية بالمقاييس السائدة!
الاخوان يمكن هنا ان يقتبسوا قيم ليبرالية ازاء الأقليات الطائفية والمرأة والمختلف الفكري، وفي مجال الفنون والآداب في أشكالها الحرة لا الحزبية التبشيرية او التعبوية… هذا ناهيك عن ضرورة الكشف عن تنوعية جوهرية بدلا من أحادية رتيبة.
روح الربيع العربي ومزاجه يعطي الاخوان فرصة تاريخية لمراجعة مسودة اغسطس ٢٠٠٧ التي لا تعطي النساء او الأقباط حق الترشح للرئاسة والمناصب السيادية.
-٤-
وثمة تحدي يتمثل في الثورة المضادة:
ثمة فزاعة راهنة تدعى: الاستقرار.. هي اقرب للوهم!
في الفترة من عام ١٨٠٥ الى ٢٠١١ شهدت مصر حكم لنظامين: ملكي مع العائلة العلوية… وجمهوري عسكري مع ثورة الضباط الاحرار.
وفي الفترة ذاتها شهدت فرنسا: ثورة جماهيرية وامبراطوريتان وخمسة جمهوريات ونظام شبه استبدادي فاشي!
والمحصلة ان الأوضاع المدنية والاقتصادية في فرنسا اكثر تفوقا وازدهارا منها في مصر “الاكثر استقراراً”.
ان فزاعات عدة سقطت مع الملايين المنتفضة.. خليق ان يسقط الان منطق صناعة تلك الفزاعات.
هذا يحتم تجاوز منطق المؤامرة… لا توجد نظرية مؤامرة، ولكن توجد مجموعات مصالح متداخلة تحركها التطورات وهي في حركتها تخلق شئ من وحدة المصلحة والاتجاه والمكاسب والافكار- هذا الفهم يمكن من اختراق هذه القوى المضادة بدلا من مجرد تصنيفها على انها مؤامرة والاكتفاء بادانتها او مناهضتها بتوتر ومن خارجها لا من داخلها وبمنطقها.
تحديات لفضاء آخر:
وان كانت روح الربيع العربي واحدة.. فان السياقات العربية مختلفة..
الجزء الذي لا يشهد ثورات جماهيرية لوجود عوائق بنيوية جوهرية او لتغول الآلة الأمنية يواجه شبابه تحدياتهم الخاصة بهم… وهي أسئلة واستحقاقات -وبهجات ومرارات- بات يعبر عنها الشباب هناك بصراحة وقلق ومسؤلية تخالف الصور النمطية المأخوذة عن الشباب في مجتمعات الرفاه النفطي.
هي اسئلة تريد ان تقارب بين الواقع والآمال. محفزات التغيير وممانعاته. رغبات مابعد السياسة واصطدامها مع مصالح وقوى السياسة التقليدية… ان اكبر خطر يواجه تلك المجتمعات هو الانعزال الذي يمكن ان تنجر اليه للإفراط في التعامل الامني والتماس المكونات والانساق والتحالفات التقليدية وقت الأزمات – وما تجلبه تلك السياسة من تبعات العزلة والانقسام والردة الخطيرة.
هنا المقاربة تبدو مختلفة، بما يستلزم اليات للحل مختلفة كذلك.
-أخيرا-
يقول الأديب المكي الكبير حمزة شحاتة، “لو استغنى الانسان بالموعظة عن التجربة لضاقت مجالات الرزق”.. التجربة التي يمارسها ويخوضها الشباب العربي اليوم في فضاءات ما بعد الثورة ستفسح الطريق والافاق رحباً لهم وللاحقين.
هذا الفرق بين من يتخذ موقع القيادة، ومن يؤثر موقع الانقياد.. تحية لشباب الربيع العربي!
*ألقيت هذه الورقة في منتدى الشباب والتغيير في العالم العربي، ٢٨ و٢٩ مايو ٢٠١١، في محور التحديات والمخاطر التي تواجه الثورة العربية.
ورقة ثرية و مركزة و موفقة جداً ..
شكراً لك محمود
شكراً سيدي حمزة .. سعيد لأنك دائما في الجوار .
تحية للأخ محمود وبعد : تحليلك للثورة في مصر وتونس وما يسمي بالربيع العربيوالمخاوف التي يتبادلها المثقفون من مختلف التيارات :أود ان أضيف ان الثورة المصرية في عام 1952 والتي سميت يثورة الضباط الاحرار كان مسارها مفرحا ومبشرا بفجر جديدللتحرر من الاستعمار ومن طغيان الاقطاعيين:والذي حدث ان الثورة سيطر عليها منتفعون من الضباط الصغار الذين انتشروا في مراكز الادارة وأساؤوا/ ثم ان الرئيس جمال قد حاول الاخذ بالتكنولوجيا في صناعة الاسلحة واستقد علماء المان :ولكنه أضاع الفرصة بغضبة علي التزام المانيا بدفع تعويض لإسرائيل علي أغمال هتلر :وطرد العلماء الروس ولذلك تقدمت الهند في الصناعة الحديثة :وتبين ان عدم وجودبرلمان شعبي ورقابة علي أداء حكومة عبد الناصر أشاع الارهاب البوليسي وامتلأت السجون موالقصد ان اي حكم بدون رقابة ديموقراطية يؤدي الي فساد أداري ثم تدهور وانتهازية /وهذا ما شاهدناه في جماعة أحمد عز وحسين سالم وبياعي اراضي الدولة /ولكن الفجر قد أشرق نوره ولن تحجبه قوي الظلام من سلفية مصطنعة أو أخوان لم تتطور افكارهم وسيقود الشباب والشيخ ذوي الرؤي التقدمية /والله الموفق. لك تحياتي
شكراً سيدي عبدالملك . أغبطك على هذا الشباب الدائم .
لعل في سيناريو اخفاق الثورة المصرية لتأسيس أي رصيد ديموقراطي حديث أثرٌ سيُضاهي مشاعر النكسة التي أصابت من سبقنا من جيل . من هنا يأتي ضبط الأنفاس .
ورقة مهمة ونظرة واسعة للواقع العربي في 2011
سلمت
اهلا بك يا احمد..
ما تقوله في هذا المقال هو ما بشر به حكام اسرائيل منذ عام 1948م بالتمام والكمال. شكرا لك