في التقاويم الست الزرقاء التي تركها سعيد بيه موافِقة للسنوات 1901، 1902، 1904، 1906، 1908، و1909، وترك فيها تفاصيل يومياته الدقيقة، رصدٌ للمشهد المديني في استانبول -في ظل الخلافة الاسلامية- ومراكز القوة والبيروقراطية والمدارس ونمط الحياة الاجتماعية والمادية والثقافية، ومقاربة لمدى تدين السُكان واختلاطه -أي التدين- بالعادات والتقاليد ! … اليوميات، التي سلّط عليها الضوء البروفيسور ب. دومون (P. Dumont)* عام 1982 أول مرة، كان سعيد بيه قد كتبها قبل ثورة الاتحاديين واعلانهم للدستور العثماني الجديد عام 1908، وحتماً قبل ظهور التغييرات الكبرى التي طرأت مع صعود نجم أتاتورك في سماء الحكم التركي منذ مارس 1924.
ولم يكن سعيد بيه يحمل أي منصب حكومي كبير، وان كنا نعرف أن والده حقي باشا قد شغل لفترة منصب وزير لمخصصات نفقات السلطان.
أكمل سعيد بيه دراسته الثانوية في المعهد الملكي في غلاطة سراي، وكان يتحدث الفرنسية بطلاقة تامة، كما كان عضواً في المجلس الأعلى لصحة استانبول، كما شغل منصب مترجم للقصص الأدبية البوليسية من الأدب الغربي الى التركية من أجل السلطان عبدالحميد الثاني المولع بها.
يسرد سعيد بيه يومياته بشكل تفصيلي ممل، دون أن يضفي عليه أي مُحسنات أدبية أو خواطر ذهنيّة.. ويكتفي بأسلوب أشبه بالبرقيات الخاطفة. وفي أول ورقة كتبها من يومياته يوم الأربعاء من يناير 1902 مثال للكيفية التي صاغ فيها سرد تلك اليوميات:
“في مدرسة التجارة. عندي زكام. الغذاء سيكون في كالبكشيلار باشي. الى مدير التربية مع سرّي بيه وسلال بيه في محادثة مع شباننا حول مدرسة العلوم. ذهبت سيراً على الاقدام مع نيغاروا فريدون الى مديرية الصحة. في الساعة 11,30 في غلاطة مع عارف بيه والمستر زيترير. سيراً على الاقدام عبر جسر أونكابان. في الساعة الواحدة العودة الى المنزل على حصان أجرة. الزوجة تعاني من أعصابها. خلال اليوم ذهبت الزوجة مع [ابنتي الكبرى] سميراميس بالترام الى بيوغلو”
وحتماً ليست التفاصيل الشخصية في هذه البرقيات او تفاصيل النفقات اليومية هي ما يشغلنا في هذه اليوميات .. بل الجغرافية اليومية لرجل في مركز سعيد بيه الاجتماعي، التي تميط اللثام عن الملامح العامة للحياة المادية والثقافية لكثير من ساكني استانبول في فترته، والى توجّهات الحياة العامة التي كانت تريد أن تخرج لتوها من ربقة التقاليد والحياة الخاملة.
كان سعيد بيه عضواً في المجلس الأعلى للصحة – وهي مؤسسة أُوجدت عام 1838 بأمر من السلطان محمود الثاني ومَهتمها الوقاية من الأمراض المعدية، ومنها كان يتقاضى معظم راتبه، فهو أيضا مترجم في القصر، ويُعلم الفرنسية وفن الترجمة في المعهد الملكي في غالاطة سراي وفي مدرسة التجارة – على التوالي. أما وظيفته كمترجم روايات بوليسية للسلطان فلا يبدو أنها كانت تستقطع وقتاً كبيراً من وقته، اذ لا ذكر مركزي لها في مذكراته، وان كان يذكر تردده من وقت لآخر على قصر يلدز لقبض راتبه.
ويخرج المرء بالانطباع ان وظيفة سعيد بيه في مديرية الصحة لم تكن سوى وظيفة شكليّة أو اسمية. اذ كان يكفي عليه اثبات حضوره ومن ثم الانصراف باكراً المكتب – وهي الحيلة البيروقراطية السائدة حينها. حتى مهامه كمعلم لم تكن من طبيعة مرهقة أو مزعجة. والحق اننا مع سعيد بيه كأننا مع أولئك الموظفين الكسالى، الذين تمتلأ بهم أروقة البيروقراطيا العثمانية، والذين نصادفهم كثيراً في مدوّنات الأدب التركي حول النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث كانوا يمضون أياماً بأكملها يشربون الشاي ويبرون أقلامهم، ويتحادثون مع زملائهم دون الالتفات للانتاج الفِعلي. مثل منصور بطل رواية Turfanda Mi Mi Yoksa Turfa Mi (الجديد أم الغريب)، الذي كان مثل سعيد يجمع بين التعليم ووظيفته في احدى الوزارات وكان يعاني أشد المعاناة من احساسه بالتبطل والكسل في حياته المهنيّة – أو بـ بيرور بيه ذلك البيروقراطي الشاب الذي صوّره رجاي محمود أكرم بِك في روايته الكلاسيكية Araba Sevdasi (غرام العربة)، والذي كان يمضي وقتا أطول في التنقل في العربة مما يمضيه منجزاً لأعمال المكتب !
كان سعيد بيه يُزجّي وقته بحضور المناسبات الاحتفالية والاجتماعية، وفي التردد على المطاعم البارزة مثل مطعم ياني وهو مطعم عصري في بيوغلو، وعلى حوانيت تدخين النرجيلة في ديركلير آراشي وهو متجر حلويات ومنطقة ترفيه وتنزّه في استانبول، وفي الحضور الدائم لعروض المدّاحين وعروض الكراكوز (خيال الظل) – وهي كلها عروض كانت سابقة ومُرهِصة لنشاط السينما، وفي احتساء أقداح العرق التركي الريكي في محطة سيركيشي أو ضاحية أتيرة أو فندق طوكاتليان الذي كان يعد مع فندق بيرا بالاس أفخم فندقان في ذلك الزمن. وأيضاً في حضور حفلات الموسيقى، أو حضور الكارنفالات اليونانية في عرض شوارع بيوغلو، كما كان يحضر من وقت الى آخر حفلات متخصصة للموسيقى العربية، وعروض Orta Oynunu وهو لون من ألوان المسرح الارتجالي يقارب في أسلوبه الكوميديا الفنية ولكن بطابع وروح تركيين خالصين – وهم الى ذلك كان لا يفوّت حفلات المسرح الغربي الزائر، أو حفلات الأوبرا الموسمية، ولا الحفلات الراقصة على النمط الغربي – ناهيك عن تحدثه في سنواته الأخيرة عن خسائره المتكررة في لعب الورق (القمار).
وكان فصل الجنسين مازالا راسخاً في تقاليد تركيا مطلع القرن العشرين – وان كان سعيد بيه يخرج مع زوجته وأطفالهما الا أن ساعات حريته ولهوه كانت مكرّسة بشكل رئيسي لمجموعة أصدقاءه من الرجال.
وتبرز الاشارة المتكررة –والمزهوة- الى عربته كملاحظة مركزية في اعتداده بمركزه الاجتماعي الذي وصل اليه، وعندما ستضطر الضائقة المالية سعيد بيه لبيع عربته سيكون هذا دليلاً أكيداً على انحداره الاجتماعي الطبقي.
ويُعد سعيد بيه – بناء على كل ما سبق – نموذجاً لأولئك المتبطلين والمتمرسين بالمناسبات الاجتماعية، ناهيك عن سخاءه المادي على المظاهر التي تدعم مركزه الاجتماعي، وهو بالرغم من تذبذب حالته المالية، لا يساوم في ارتداء أكثر الملابس عصرية، والزيارة الدائمة والدؤوبة لصالون الحلاق، وفي امضاء جل وقته متجولاً بعربته في شوارع المدينة، ناهيك عن المواظبة على المناسبات الاجتماعية والترفيهية حد الإسراف.
ولم يكن سعيد بيه على الثراء الذي يخوّله امتلاك منزل صيفي خاص به، لذا كان يستأجر داراً في جزر الامراء Büyükada أو على الشاطئ الآسيوي للبوسفور، كي لا يتخلف صيفاً عن المجتمع المخملي الذي كان يتطلع دائما للبقاء ضمن دائرته.
وفي عام 1902 سيمكث سعيد بيه في منتجعه الصيفي طيلة ستة أشهر، من منتصف أبريل حتى أكتوبر. وكانت هذه الاجازة موسم ارتحال فِعلي، حيث يرتحل الأثاث المنزلي –والخدم العاملون- من المنزل الشتوي الى المنزل الصيفي. وتتميز هذه الهجرة الصيفية بزيادة الوقت المخصص للترفيه عن النفس واللهو الصاخب – حيث نلحظ أن ذلك الظرف الجديد كان يُمكّن سعيد بيه في تخصيص وقت أطول لشُرب العرق ولقاء الأصدقاء والتردد على عروض الحياة الثقافية والترفيهية.
وفي الصيف ينشغل سعيد بيه بنشاطات رياضية مثل السباحة، والابحار بالقارب، وأخرى كانت تبدو “غريبة” في السياق التركي لحداثة العهد بها: مثل ركوب الدراجة الهوائية! أما في الليالي التي يكتمل فيها القمر بدراً، يأخذ سعيد بيه أُسرته في نزهة سيراً على الأقدام على طول الشاطئ، أو يقومون برحلة بحرية في قارب ليرقبون بصفاء أكبر انعكاس السماء على مياه البحر الهادئة.
ولا ريب أن سعيد بيه لم يكن رجلاً تقياً مُغرقاً في التدين. ففي عام 1902، وفي الوقت الذي كان يدوّن فيه بدقة متناهية كل جلسات شرب العرق، لم يذكر مرة واحدة أنه قام بزيارة للجامع. ومع ذلك فهو وأسرته كانوا يحتفلون بكل دقة بجميع العُطل الدينية، وكذلك العطل الوطنية التي تُظهر كيف يكيّف سعيد بيه -وأتراب فترته- بنعومة مع جريان الاحداث السياسية، فكما كان يحتفل بصعود السلطان الى العرش سنوياً قبل عام 1908، نجده يحتفل بثورة الضباط الأتراك الشبان بعد ذلك – حيث لا يبدو أن تغييراً خطيراً قد طرأ على أسلوب حياته قبل الدستور العثماني أو بعده.
ولم تكن أسرته تتوانى يوما عن تحضير حلوى العاشوراء – كما يليق بمن ينتمون لشريحة متوسطة عليا من المجتمع – في اليوم العاشر من شهر محرم احياء لذكرى خلق الله للانسان، ولمقتل الحسين أحد أحفاد الرسول.
كما كان سعيد بيه وأسرته يشتركون على الدوام باحتفالات العيد الذي يطلقون عليه Hıdırellez عيد الامام الخِضر وهو عيد صوفي، يأتي في بداية شهر مايو، يحتفل بشخصية الامام الخضر ذات الكرامات الخارقة، ويتم فيه الاحتفاء بقدوم الربيع وانتصاراً لكل ما هو أخضر وحيّ ضداً على الموت والفناء.
وتتميز أجواء ليالي رمضان بالولائم الليلية المترفة، وكل ضروب الاحتفالات الباذخة والصاخبة الذي ترافقه – حيث تستمر عروض مسرح الكراكوز ورجال الاستعراض والمدّاحين وجلسات الطرب والغناء والرقص في المقاهي وحوانيت الحلوى بشكل يومي. ان أجواء رمضان كما يتبين من الخطوط العريضة لمذكرات سعيد بيه، شبيهة بتلك الأجواء التي وصفها الرحالة جيرار دو نيرفال يمزيج من الدهشة والسرور قبل ستين سنة خلت من الحقبة التي كان سعيد بيه يوثّقها!
وتتمع زوجة سعيد بيه من مذكراته، بهوامش عليا من الاستقلالية والانطلاق، وتتمتع بدورها بحياة اجتماعية حافلة. واذا ما كان سعيد بيه يلتقي بأصحابه كل يوم فهي من جهتها تستغل كل فرصة سانحة لمغادرة المنزل بحثا عن المتعة والتسلية والمغامرة، فهي تذهب لزيارة الجارات، أو التبضع في بون مارشيه والتسكع أمام واجهات المحلات التجارية، كما تشترك بشكل موسمي في حفلات تقام في الحدائق في أمكنة هامّة لظهور وبروز الطبقات المترفة: مثل هضبة الشامليكا أو مروج كاجيتهان – كما كانت تحضر بدورها عروض المسرح وعروض الكراكوز الشعبية – وفي الصيف كانت تمارس السباحة (في حمامات مخصصة للنساء) – وان كانت مع كل هذا تبدو وهي تمتلك الكثير من وقت الفراغ، أكثر مما يملكه سعيد بيه نفسه. واذا كان زوجها يشبه في حياته اليومية الى حد كبير منصور أو بطل غرام العربة كما نحتها الأدب العثماني مطلع القرن الماضي، فانها تحاكي بدورها البطلات اللواتي ينفقن الوقت بالتراخي والكسل كما وصفهن معظم أدباء التركية – وخاصة محمد رؤوف وحسين رحمي غوربينار.
كان حياة السيدات لا زالت تمضي في موازاة عن حياة الذكور الاجتماعية – شئ أشبه بالفصل بين الصارم في المنازل التركية التقليدية بين أجنحة الحرملك (النساء) والسلملك (الذكور). وهو وضع كان يعروه الكثير من النفاق والارتهان للتقاليد البالية التي كان العقل الجمعي في مدينة استانبول قد شرع في تجاوزه بخفوت، حيث بدأن النساء في احتلال مساحات أوسع في الحياة الاجتماعية، والتخلي التدريجي عن النقاب السميك الى آخر شفاف، والبدء في التحول نحو مجتمع مُختلط. كان مجتمع العاصمة يبدو جاهزاً للانقلاب الجذري الذي سيحسمه قائد صارم مثل أتاتورك. وفي تلك الحقبة التي كان يدّون فيها سعيد بيه يومياته صعدت خالدة أديب التي ناضلت بكل شجاعة واندفاع لتحقيق المساواة بين الجنسين وتحرير المرأة التركيّة.
وعلى الرغم من اتقان سعيد بيه للفرنسية، وتكلّفه في اتباع السلوك الأوروبي الغربي، وتردده المستمر على منتجات الحياة الثقافية الفرنسية والايطالية في مسارح وحانات بيوغلو والسفارات الأوروبية، إلا ان ظل وفياً لطابع الحياة العثمانية، مخلصاً لأصلانيته التركية، فهو الى جانب ما سبق – لا يجد حرجاً في التردد على عروض المدّاحين والمسرح المرتجل وعروض الكراكوز، وتدخين النرجيلة الشرقية والمداومة على حوانيت الحلوى المحلية وممارسة باقي أنماط اللهو الشعبية. كما تجتذبه الموسيقى التركية بمقاماتها الشرقية أكثر من حفلات الموسيقى الغربية، حيث يصعد من أصدقائه بعض المؤلفين الموسيقين العظماء من الأتراك مطلق القرن العشرين – وكان أحدهم الموسيقار الشهير لمعي بيه.
كان سعيد بيه، غربي الميل اذا ما تعلق الأمر بالأزياء السائدة وبعض العادات المتبعة، إلا انه ظل شرقيّ الروح، وفياً بمظاهر الحياة الاجتماعية الخاصة بحضارة بلاده. كان مواطناً مثالياً من مواطني استانبول: مواطن كوزموبوليتاني يحفل بكل تناقضات المدينة وتنوعها المُبرقش، حيث كانت تصعد لتوها كقنطرة بين ثقافتي الشرق والغرب – كان سعيد بيه مواطنا ترعرع في ظل لحظتين تاريخيتيّن كانت تتلقفانه من دون ترتيب وحسب أهواء اللحظة وحسب ما تأخذه تنقلاته عبر المدينة المترامية التي كانت تتمدد في غير اتساق وخارج عن كل تقاليد الخلافة الإسلامية بأثقالها وجمودها وعصيانها على التأقلم مع واقع صاعد حديث.
* أوراق ب. دومون من مجلد The modern Middle East: A Reader ، أحد مطبوعات جامعة كاليفورنيا بيركلي.
شكراً لك أخي محمود…
اتحافنا بيوميات الطبقة العليا في اسطنبول على مشارف الرمق الأخير للدولة العثمانية، يعطينا انطباعاً جيداً لما يؤدي إليه الاغراق في الترف، و اللامبالاة الحاصلة من الفئة التي يتوقع منها أن تكون حلقة الوصل بين الشعب و السلطان. و خلاء الروح ينعكس على خلو يومياته من المحسنات الأدبية، و الجوانب الفكرية التي من المفترض أن تكون انعكاس الواقع على ذهن ذلك الشخص، و لكن في حالة سعيد بيه، لا يوجد هناك انعكاس، و انما هو فقط قطعة من الزجاج نرى واقع ذلك الزمن من خلالها.