** هذا جُزء صغير ومُنتقى ومختصر الصياغة من دراسة مطولة نُشرت ضمن كتاب (التصوف في الخليج)، تحت عنوان (الصوفيّة ومجالسها ومؤثراتها في الحجاز الحديث) لمحمود عبدالغني صباغ. كتاب (التصوف في الخليج) هو الكتاب رقم (56) من سلسلة كتب مركز المسبار الدورية.
– الظاهرة السنوسيّة في الحجاز:
الحركة السنوسية حركة اصلاحية انطلقت من الحجاز، تعود فترة زهوها في التربة الحجازية ما بين عامي 1828-1918م.
وحين عزم زعيمها السنوسي تشييد باكورة زواياه بسفح جبل أبي قبيس، جوبه بممانعة ضارية لأن الموقع الذي اختاره يرتفع مقدار طابق واحد أعلى من بناء الكعبة، لكنه مالبث أن أقنع الشريف المحلي، الذي عرض بدوره المساعدة فى أعمال البناء، لكن السنوسي اكتفى بقبول الإعتذار والحصول على إذن البناء.. تلك الحادثة ساهمت فى تعزيز هالة القداسة التى أحاطت بانطلاق الحركة منذ بواكيرها.
لقد بدأ بناء زاوية أبي قبيس الإستفتاحيّة في نهاية 1242هـ (الموافق 1827م)، وخلُص منه بعد عام من ذلك – أي في حدود عام 1828م.[1]
كان محمد بن علي السنوسي (1787 ـ 1859م)، مؤسس الحركة السنوسية، قد اتصل بالحجاز بدءاً من عام 1825م، وهو ابن السادسة والثلاثين ربيعاً، ومكث به زهاء خمسة عشر عاماً (كانت هي فترته الأولى). درس فيها السنوسي على يد قاضي الأحناف في مكة ومفتيها آنذاك الشيخ عبدالحفيظ بن درويش العجيمي الذي أخذ منه الإجازة والأسانيد العالية، وقرأ عليه صحيح البُخاري وموطأ مالك، وكان العجيمي يُلقّب في مكة بأبي حنيفة الصغير. كما درس السنوسي على يد الشيخ المكّي عمر بن عبدالكريم بن عبدالرسول العطار، ومفتي الشافعيّة في مكة الشيخ محمد صالح الريّس.
وفي مكة التقى السنوسي بمُرشده الأول [العارف بالله] أحمد ابن ادريس، الذي أخذ منه الحديث والسُّنة وأسانيد الطريقة الصوفية الإدريسية [كانت تُسمى: المحمدية الأحمدية]، ولم يستغرق الإنضمام اليه أكثر من خمسة عشر يوماً ليعتبر الأخير أن السنوسي هو “نائبه”، ويصدر اقراراً يقضي بخلافته له في اعطاء العهود وتلقين الذكر. حتى ان ابن ادريس قال للسنوسي وقتها، كما يذكر حفيده أحمد الشريف: “أنت نحن، ونحن أنت”.
وفي مكة تسلّك السنوسي الطريقة الخلوتية والعويسية من شيخه عبدالحفيظ العجيمي، كما تسلّك الطريقة النقشبندية والقادرية على يد عبدالله شاه، أما السهروردية فتسلّكها من كلٍ من مُعلمه ابن ادريس وعبدالله شاه.
والسنوسي اتصل بالأسانيد العالية لعلماء الحجاز الكبار: ابراهيم الكوراني (توفي 1697م)، حسن العجيمي (توفي 1701م)، وصالح الفلاني (توفي 1803م) [2]، وهو كثيراً ما يذكر الفلاني والكوراني في مؤلفاته، ومن المثير أن نرى أن كلاهما كانا مُهتمّان بقضية الإجتهاد.. تماماً مثل السنوسي، وقبله شيخه ابن ادريس.
وابن ادريس [3] هو قاعدة مشروع السنوسي الإصلاحي الكبير. أخذ منه السنوسي مناولةً في بطحاء مكة، وكان من مرافقيه بعد أن طُلب من ابن ادريس مغادرة مكة بعيد دعوته الى فتح باب الإجتهاد والغاء التقليد المذهبي، منفياً مع أعوانه الى صبيا عسير عام 1827م، حيث لازمه على فترات متقطعة انتهت بوفاة ابن ادريس في أكتوبر عام 1837م. وقد روُي عن شيخه أحمد بن إدريس وهو فى بندر الليث في منتصف طريقه الى صبيا منفياً قوله “بوجود ابن السنوسى بمكة ما كأننا فارقناها”.
لقد اطلق السنوسي دعوته الإصلاحية من مكة المكرمة ابان مكوثه الأول طيلة خمسة عشر عاماً حشد خلالها الأتباع والإخوان والمريدين، ولكنه أخفق في انشاء دولته على أراضي الحجاز، مُكتفياً بدولته التي أنشئها في برقة بليبيا.
والحقيقة أن كلاً من الحركة الوهابية في نجد، والحركة السنوسية في الحجاز، تقاطعتا في عدد من السمات، منها الموقف السياسي المناهض للمركزيّة العُثمانية، وطابع النزعة الإصلاحية ازاء تطبيق المُعتقد “الصحيح” وبث الأخلاق “الحميدة”، وفي تطويع القبائل البدويّة وتوطينها في هِجَر زراعية [زوايا في الحالة السنوسية]، وفي ذات تنظيم الإخوان الحركي وحث أبناء القبائل على الجهاد.. ولكنهما اختلفتا في تسامح السنوسية مع قبور الأولياء والاندراج في طقس طُرقي، كما أن السنوسية لم تلجأ الى فصل الإمارة عن الإمامة، كما فعل محمد عبدالوهاب الذي تحالف مع أمير الدرعية محمد بن سعود. اذ دمجت الحالة السنوسية كلاً من الإمارة والإمامة في شخص السنوسي الكبير.
وبعد وفاة ابن ادريس، صعد زخم زاوية أبى قبيس، وأضحت مقصداً للعُلماء ومركزاً وقاعدة للحركة السنوسية بالحجاز.
واستطاع السنوسي أن يبرم الخيط على طول الساحل الحجازي، وأن يُنظّم عقد الزَوايا فيه. يقول بريتشارد: “من المفيد جداً أن نشير إلى أن السنوسية نالت مقاماً رفيعاً في الجزء الغربي من جزيرة العرب”.
واضطر السنوسي الرحيل عن مكة الى برقة في 1841م، تاركاً خلفه معاونه عبدالله التواتي قيّماً على زاوية أبي قبيس.
وحين عاد السنوسي الى الحجاز في المرة التالية، مكث به ثماني سنوات حفلت بنشاط حركي واسع، استهدف خلالها ابناء قبائل حرب وبني حارث، والحجاج المارين بدروب الحج. فأسس زوايا عدا تلك التي في أبي قبيس والمناطق الحضرية، في أنحاء تجمعات قبائل الشمال.
ويلاحظ المستشرق الهولندي سنوك هورخرونيه الذي زار مكة عام 1884م: “أما في مقاطعات الحجاز التي تسكنها قبائل “حرب” وغيرها من الأعراب فإن السنوسية تحظي بأرفع التقدير، نظراً لأن دعوتها العمليّة قد نجحت إلى حد بعيد في أن تجذب أبناء الصحراء الذين ينفرون من كل سلطة كما أنهم بعيدون جداً عن الإسلام الصحيح، وضمتهم تحت زعامتها”.
لقد كانت الزوايا السنوسية في واقعها كما يقول بريتشارد: “مدارس، ومحطات قوافل، ومراكز تجارية، ومراكز اجتماعية، وحصوناً، ومحاكم، ومصارف نقدية، ومستودعات، ومأوي للفقراء، ومواطن حمى، ومدافن، كل ذلك إلى كونها قنوات يسير فيها نهر البركة الربانية”.
ووصلت الزوايا السنوسية في الحجاز الى بضع وعشرين زاوية [ثمانية منها فقط أُنشئت في حياة السنوسي الكبير] – أشهرها :
1. زاوية أبي قبيس بمكة المكرمة، وهي أول الزوايا السنوسية على الإطلاق، تأسست عام 1828م، مُلحقَة بمسجد ومدرسة للتعليم ومساكن لقبول الطلاب الزائرين والمسافرين. وكان أول شيخ لها العلاّمة عبدالله التواتي، ثم بعد مقتله، تعيّن السادة: مصطفى الغماري، حامد غانم المكاوي، علي حامد، الشارف حامد، الصادق السنوسي حامد؛ على التوالي.
2. زاوية الطائف. ثاني الزوايا التي أسسها السنوسي (في عام 1836م)، وقد بناها أيضاً في مكان مرتفع على سفح جبل ابن منديل، تأسياً بنمط بناء زاوية أبي قبيس، وعيّن عليها من محمد بن صادق البكري من أهل الطائف [4]. وسُميّت الزاوية فيما بعد مسجد الريع، أو مسجد الطرابلسي.
3. زاوية المدينة المنورة، مقرها في العنبرية بالمناخة أنشئت عام 1849م، وكان أول شيخ لها هو العلامة محمد الشفيع، ومن بين من تولى مشيختها، العلامة مصطفى الغماري، ومحمد عبدالله الزوي، وعبدالسلام فركاش.
4. زاوية جدة.
5. زاوية ينبع النخل. بقرية السويق.
6. زاوية ينبع البحر.
7. زاوية بدر. أنحاء المدينة.
8. زاوية الحمراء. أنحاء المدينة.
9. زاوية العيص. أنحاء المدينة.
10. زاوية وادي الصفراء. أنحاء المدينة.
11. زاوية مِنى. أنحاء مكة.
12. زاوية جُعرانة. أنحاء مكة.
13. زاوية رابغ. ساحل الحجاز.
14. زاوية الليث. ساحل الحجاز.
15. زاوية أُملج. ساحل الحجاز الشمالي.
16. زاوية ضبا. ساحل الحجاز الشمالي.
17. زاوية الوجه. ساحل الحجاز الشمالي.
18. زاوية الفارعة. شمال الحجاز. أنحاء تبوك.
19. زواية صمد المفالحة. أنحاء وادي فاطمة
20. زاوية الجموم. أنحاء وادي فاطمة.
21. زاوية الهنيّة. أنحاء وادي فاطمة.
كان السنوسي في عودته الثانية الى الحجاز كمن يطلب البقاء أبداً. كان يقصد بنفسه زواية أبي قبيس ليُدرّس الطلاب الفقه المالكي الى جانب الطريقة.. وهي ذات الفترة التي ألّف خلالها عدداً من الكتب منها كتابه بغية المقاصد وخلاصة الراصد المسمى بالمسائل العشرة (1847م)، ورسالة كتبت لمقدمة كتاب موطأ الإمام (1850م).
ولكنه بعد الحاح زعماء برقة الذين صاروا يبعثون الوفود تلو الأخرى حثاً له للرجوع الى ليبيا، رتّب الأمور بالحجاز بعناية، وعيّن مشائخ للزوايا وزوّدهم بما رآه، وحثّهم على سلوك طريقته في ارشاد العباد، وأناب عنه في زاوية أبي قبيس الشيخ محمد ابراهيم الغماري، وابقى ابنيه (محمد المهدي، ومحمد الشريف) ووالدتهم وجدّهم في مكة، وأمرَ محمد الغماري، وأحمد البقالي بتعليمهم والإعتناء بهم (1858م).
وللسنوسيّة بُنيتها المعرفية ورموزها الحركية، وقد حظيت في الحجاز بتنظيم هرمي رفيع، وبناء تنظيمي صارم، يعلوه رئيس جماعة، ويرافقه مجلس خواص الإخوان (شورى)، وشيوخ زوايا، وطبقة من الإخوان مهمتهم التجنيد للحركة.. ناهيك عن فرق رفيعة للإستخبارات والإتصال والنيابة.
لقد جهر السنوسي بتصوفه ناهيك عن أنه اخذ عن جل علماء المتصوفة فى ذلك الوقت وتلقى معظم أسانيد طرقهم، ولكنه كما يقول الدجاني عنه، أنه اكسب “صوفيته طابع السنة ولجمها بحدود الشرع واكسب فقهه طابع الروحيّة المتألقة”. كما ان كُثر اعتبروا مُعلمه (ابن ادريس)، بمثابة صوفي مُجدد (Neo-Sufi) لتنقيحه الطقوس الصوفية من كثير من الممارسات التي غلثت بها – والسنوسي بطبيعة الحال سار على خُطاه.
لقد اكتسبت الطريقة السنوسية احتراماً شديداً في الوعي الجمعي الحجازي.
وقد لاحظ هوروخرنيه عام 1884م، أن السنوسية تحظى باحترام عميق بين الأهالي، الى درجة أنها كانت تحتفل بمرور حَوْل على وفاته في تقليد سنوي، حتى بعد ثلاثين عاماً من رحيله.
وحين أطلق الشريف حسين بن علي ثورته العربية الكُبرى عام 1916م، من مكة، اتخذ من شكل معمار زاوية السنوسي بأبي قبيس شعاراً لدولته الجديدة، اما تفاؤلاً أو خشوعاً أو حتى التماساً للشعبيّة. والطريف أن الإخوان “الوهابيون”، حين دخلوا مكة، بعد غروب عهد الشريف حسين، كان من أول أعمالهم، تخريب سقف مسجد أبي قبيس في 10 نوفمبر 1924م، لربما اعلاناً عن عهد جديد.
-تحولات الذهنيّة في الحجاز الحديث:
كانت البنية المعرفية في الحجاز تشهد مع بداية القرن العشرين عملية تحوّل قيمي من داخلها.
كان الشبان الحجازيين الذين تلقوا تعليماً حديثاً في الخارج، أو أؤلئك الذين نشئوا على صيحات النهضة العربية الكبرى في مكة، قد بدأوا في تشكيل موقف مستقل من التاريخ، وبدأوا في التماس دروب المدنيّة، والسعي نحو اقتباس روح العصر.
كان شابٌ حجازي من رواد النهضة، هو عبدالرؤوف صبان، يُعبّر عن ذلك الصعود في الوعي. لقد أُبتعث الصبان، الذي يتحدر من أبرز عوائل مكة التجارية، الى مصر في بعثة الخديوي عباس منذ سنة 1909م، وتخرّج من دار العلوم المرموقة، وحين عاد “كان ثائراً على ما تحفل به حياة المجتمع اذ ذاك من الخُرافات نتيجة التأخر والجمود”.. كان وهو يقضي الأماسيَّ في مجلسه بدار الشيخ محمد حسين نصيف يتعرضان للمواكب الخاصة بمشايخ الطرق ومريديهم فيسفهون آراءهم ويحصّبونهم بالحجارة.
ولم يكن الصبان سلفياً كصنوه النصيف، فهو قد عُرف بتصوفه “البلدي” البسيط الناقد لمظاهر الدروشة والغلو الطرقي.
يقول عمر عبدالجبار عن الصبان، انه التقاه مرة “عند بئر زمزم بجبته القصيرة وعمته البيضاء ومسواكه الطويل متأبطاً محفظته وسجادته وبيده مسبحته المئوية الطويلة وكان من طلاب الشيخ محمد يوسف خياط فنشأ صالحا تقيّاً متصوفاً”.
ومن ناحيته يُعدد الشاعر الثائر محمد حسن عواد، في إضمامة أدب الحجاز [صدرت عام 1925م]، صفات الحر العصري، من أبناء جيله، فيصفه بذلك “الشاب الذي لا تروَّج عنده الخرافات الرشيدية ولا التَرهات الشاذلية، ولا الألاعيب الرفاعية”.
ويذكر شرف البركاتي.. أحد قادة جيش الشريف الحسين في الرحلة اليمانية للقضاء على ثورة الإدريسي ضد الحكومة العثمانية الذي كان متحصّنا في لواء عسير في 1911م.. مجموعة ملاحظات تؤكد سخريته من “الكرامات” الصوفية التي كان يلجأ لها الإدريسي (حفيد العلاّمة أحمد ابن ادريس) ويريد بها التأثير على عُربان تهامة وتطويعهم السياسي والعسكري، مستغلاً “اعتقادهم الصلاح والتقوى في سلفه وظنهم أنه على منوال آبائه ومما زادهم لأمره انقياداً وقوّاهم فيه اعتقاداً ما أظهره لهم من الألعاب التي حسبوها لبساطتهم كرامات، بل ظنها الكثير منهم معجزات”. وذكر منها استخدامه صندوق الكهرباء المُحرّك للأعصاب عند المسّ، واستغلال جهل المحليين به، فحين تسري الكهرباء في أجسادهم، كانوا يصيحوا من فرط بساطتهم “المدد يا إدريسي”، كما كان يستخدم النور المتصل بالتيار الكهربائي، وهو ذو لون أبيض، بخلاف ضوء الغاز الذي يعهدونه، ليُغرر بهم ويوهمهم باتصال الوحي به.
ويذكر محمد علي مغربي، وهو شاب عصري، عمل سكرتيراً لزعيم الأدب الحديث في الحجاز محمد سرور الصبان [ووزير المالية في العهد السعودي أيضاً]، الطقوس التي كانت تُمارس في حجرة قبر أمنا حواء في جدة، في توثيق لا يخلو من الموقف النقدي:
“أدركت قبر السيدة حواء أم البشر بمدينة جدة في أوائل الأربعينات من القرن الهجري الماضي تتوسطه قبة عظيمة .. يدخل .. الحجاج .. لزيارة أمنا حواء .. ويتولى أحد المشائخ وكان .. من بيت القاضي بجدة إدخال الحجاج، وتلقينهم الدعاء للزيارة، ويتقاضى .. من الزائرين النقود التي يدفعونها مكافأة له، وحينما استولت الحكومة السعودية على الحجاز ودخل الملك عبد العزيز مدينة جدة سنة 1344هـ [1925م] كان من أوائل الأعمال التي قامت بها الدولة السعودية هدم ما يسمى قبة حواء وقفل الزوايا المنسوبة إلى الطرق الصوفية، وإبطال البدع التي كانت سائدة في ذلك الزمان، والتي كان يتقرب بها الناس -كما في ظنهم- إلى الله تعالى”.
كانت ظاهرة الزوايا الصوفية في الحجاز، تجري بانسجام مع بقية مدن المشرق، حيث انتشرت الزوايا في القاهرة، دمشق، حلب، والقدس.. واستمرت حتى مطلع القرن العشرين، بعد أن لعبت دوراً في تنظيم شؤون الناس.. لكنها أيضاً بدأت في الإنحسار مع التحولات التي مسّت مجرى الثقافة السائدة وأخذتها نحو تبدل قيمي تبلوّر في شكل أجهزة الدولة الحديثة. وهو شكل وجد في أقنية التعليم النظامي، والصحافة، والأحزاب السياسية بديلاً لمؤسسات الطريقة والزوايا الصوفية.
كان الشاب المكّي عقيل بن أحمد العطاس (مواليد عام 1903م)، يخضع للدروس التقليدية التي نشأ عليها أبناء جيله، بيد أنه سيتسرب من درس العلاّمة السيّد عيدروس بن سالم البار، ليلتحق بمدرسة الفلاح الحديثة مع افتتاحها عام 1912م، وفيها بدأ يختلف الى نادي الشيخ عبدالسلام كامل، وهي ندوة للشباب الحجازي الناهض كان يجتمع بها ابّان الثورة العربية (1916-1918م) ليناقش قضايا الأدب الحديث والخطابة السياسية. وبدلاً من أن يترقّى الشاب عقيل العطاس في مراتب طريقة السادة آل باعلوي المكيّين، أصدر مجلته الخطيّة الارتقاء، وألحقها بمجلة أخرى تحمل اسماً ومضموناً نهضوياً؛ العصر الحديث، التي كان يُحررها مع نخبة من ناشئة الأدب الحديث في الحجاز، يجهرون فيها بآراءهم المُتحررة والعصرية ويعلنون رَغبات لحاق الحجاز بالنهضة الحديثة.
في زيارته للحجاز عام 1936م، وَصَف محمد حسين هيكل باشا حماس شبان مكة الحديث الذين التقاهم في منزل الشيخ عباس قطان، بقوله: “وهم يفكرون في نظام سياسي مثل هذه النظم الديموقراطية التي نقلها الشرق عن الغرب” – من ضمن ما وثّقه في كتابه في منزل الوحي.
– مِحن الصوفيّة في العهد السعودي:
كان العهد السعودي في الحجاز، بمثابة عهد إبدال قيمي جذري، نتيجة الخلاف الجوهري بين المدرسة السلفية والطقوس الطرقية.
يصف أحد كبار شيوخ مكة، الشيخ محمد العربي التبّاني، تلك الحقبة في شهادات متفرقة من كتابه برائة الأشعريين: “وفي سنة دخول السعوديين لمكة المكرمة 1343هـ [الموافق 1924م] رأيت عند الأشراف وأنا ذاهب الى المعلا رجلاً من أهل مكة خارجاً من المسعى من زقاق المليبارية الضيّق قائلا: اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد، وصادف نزوله جماعة من الغُطْغُط الى الحرم فالتفت اليه رئيسهم حنِقا مشيراً اليه بعصاه قائلاً: (اذكرون ولا تعبدون) أي (اذكروه ولا تعبدوه)، فبُهت الرجل خائفا منهم”.
وقد فسح الإخوان للكُتبيين في السنين الأولى من دخولهم الحجاز بجلب دلائل الخيرات غير المُهمّش، فيما منعوا النسخة التي تحتوي على الهوامش. ثم منعوا جلبه مهمّشاً أو غير مهمّش. وقد جلب منه الكُتبي المكّي الشهير عبدالصمد فدا أربعمائة نسخة فألزموه بارجاعها الى مصر أو يتلفونها، فتركها لهم.
وقد نشرت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعلانا بمكة حذرت فيه الناس من كتاب دلائل الخيرات. وفي سنة 1376هـ [1956م] نُشر في جريدة البلاد السعودية، تحذير مُبالَغ في صياغته من دلائل الخيرات و”أنه أشد ضررا على الأمة من كتب الزندقة والإلحاد وأن مؤلفه يهودي”.
وبعد دخول مكة في العهد السعودي، في أكتوبر 1924م، جرت مناظرة بين كتلة علماء مكة، وكتلة علماء نجد، في الأصول والفروع.. أُرغم علماء مكة بعدها على اصدار بيان يُبطلون فيه “البدع” التي تُنافي التوحيد [5].
وفي حدود عام 1928م، أمر رئيس هيئة مراقبة القضاء الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ بحصر الزوايا التي بمكة، ثم دعا مشايخها ورتب لكل زاوية رجلاً من أهل السلف، وقد حاول بعضهم مقاومة ذلك الإحلال، بذريعة تملكهم المباشر للزوايا، التي تلاصق دورهم فعلاً، وأنها ليست أوقافاً عامة.. ولكن ذلك لم يُجد نفعاً.
وتوجّه الشيخ عبدالله بن حسن إلى المدينة المنورة، يرافقه معاونيه للنظر في شؤونها الدينية ولتفقد دوائر الأوقاف والمعارف وغيرها، فقام بتنظيمها وترتيب كوادرها ووضع لجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظاماً يسيرون عليه. ثم التفت الى مشائخ الطرائق، وكانوا قد تراجعوا في طقوسهم العلنية بالمسجد النبوي، بعد أن مُنعوا من ذلك وأُمروا أن يذكروا الله في أنفسهم تضرعاً.
كانت أغلب الطرق قد تركت الإجتماع العلني إلا التيجانيين فإنهم نقلوا وظيفتهم من المسجد إلى الزاوية، وهو قصر بباب المجيدي، اشتروه بـ 140 ألف فرنك، تبرع بها أحد أثرياء الجزائر.
واستدعى الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ، شيخ الطريقة التجانية بالمدينة، الشيخ ألفا هاشم [6]، وهو ابن أخ الحاج عمر الفوتي أحد أركان الطريقة، ودارت بينهما مناظرة نقلها الشيخ محمد تقي الدين الهلالي. وطلب آل الشيخ من ألفا هاشم التراجع عن أداء طقوس طريقته التجانية [7]، والتعهد كتابياً بانكاره لعقائد طريقته في صحيفة، فطلب ألفا هاشم مهلة طالت عن ثلاثة أشهر بين التسويف والمراوغة والمماطلة، حتى أنه شكاه الى أمير المدينة.
وفي أكتوبر 1926م، عُيّن الشيخ عبدالظاهر أبوالسمح إماماً وخطيباً بالمسجد الحرام. وكان به أئمة كثيرون، فألغوا جميعاً، ونُصّب وحده – وكان من أهل السلف. وكان أبوالسمح يخطب ارتجالاً حسب الأحوال والظروف، ومضى على ذلك قريباً من عام، ثم جاء الأمر من الملك بالتزام ديوان شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب.
واندلعت أزمة كبرى في المدينة المنورة حين طلب جمعٌ من شيوخ الحنبلية من السيّد أحمد الشريف السنوسي، المُجاهد الليبي المعروف، الذي كان قد انتقل -للجوء السياسي- والمكوث بالمدينة المنورة منذ عام 1924م – طلبوا منه التبرؤ من أوراد السنوسية ومن كتابات السيّد محمد المهدي السنوسي، وإعلان التوبة منها. وقد شقّ على أحمد الشريف ذلك، فأعلن عن رفضه للامتثال للتعاليم الوهابيّة، فما كان من مشائخهم إلاّ تكثيف الطلب من الملك عبدالعزيز بإخراجه من المملكة، ولكن الملك عبدالعزيز تباطئ في الإمتثال لرغبتهم، حتى جاء حتف السيّد السنوسي صبيحة يوم الجمعة 10 مارس 1933م، وهو بالزاوية السنوسية بالمدينة المنورة، ليُدفَن ببقيع الغرقد.
– هوامش توضيحية (أما المراجع الكاملة فهي مرفقة في أصل الدراسة):
[1] تعيد بعض المصادر تاريخ انطلاق السنوسية الى تاريخ 1837م، وهو ذات العام الذي تعده أيضاً تاريخاً لإفتتاح زاوية أبي قبيس، وهذا غير دقيق، فالزاوية أفتتحت في منتصف عام 1828م، لكنها بعد وفاة ابن ادريس في أكتوبر 1837م بصبيا، انفردت بمركزية احتضان الطريقة السنوسية. وكان عدد من طلاب ابن ادريس قد اختلفوا بعيد وفاته حول خلافته التي آلت للسنوسي، فخرج بعض الطلاب وأنشئوا طُرقهم الخاصة، مثل محمد عثمان الميرغني من أهل مكة الذي أسس الميرغنية وانتقل بها الى السودان، والرشيدية التي أسسها ابراهيم الرشيد وهو من أهل السودان (وكان خليفته الدندراوي مؤسس الطريقة الدندراوية).
[2] صالح الفلاني المدني (توفي 1803م): من سادات علماء الحجاز. المشهور بالإسناد العالي. كان يجيز الأحاديث، ويمنح اجازة مكتوبة بخط يده. له ثبت أسماه قطف الثمار، في أسانيد المصنفات في الفنون والأثر وآخر أكبر اسمه الثمار اليانع. يروي مؤلفات [العارف بالله] الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي، ودلائل الخيرات عن الشيخ أحمد النخلي. (المصدر: من ثبت الكزبري للفاداني).
[3] ابن ادريس هو الإمام المتصوّف أحمد بن ادريس، من علماء مكة، (أصلاً من أهل فاس)، وكان من فحول العلماء [العاملين] والصوفية [المحققين] أخذ عنه أهل الحجاز علوم التصوف ودخل أكثرهم في طريقته الإدريسية، وحين نُفي من مكة المكرمة، عام 1827م، واستقر في قائم مقامية صبيا التابعة لمتصرفيّة عسير، وضع نواة امارته الشهيرة بها. وقد تفرع من الطريقة الادريسية امتدادات ادريسية في أرخبيل الملايو وارتريا، وانبثقت عنها الطريقة الصالحية في الصومال، والطريقة الرشدية في السودان.
[4] لاحقاً اقترب البكري كثيراً من السنوسي ورافقه الى برقة، وتزعم زاوية جريد في تونس، وقام بالنيابة عن السنوسي في الإتصال بالمقاومة الجزائرية للإستعمار.
[5] بيان علماء مكة، ومنهم محمد حبيب الله الشنقيطي، وعمر باجنيد، ودرويش عجيمي، وأحمد النجار، وجمال المالكي، وحسين مالكي، وعبدالرحمن زواوي، وآخرون.
[6] العلاّمة ألفا هاشم بن أحمد سعيد الفوتي (1865-1931م)، من مواليد السودان هاجر الى الحجاز عام 1906م، كان زعيماً للتكارنة في المدينة المنورة، وشيخ متبوع للطريقة التيجانية فيها، تخرّج على يده من أهل الحجاز: الشيخ حسن المشاط، والزعيم السياسي حسين باسلامة.
[7] وتنطوي الطريقة التجانية، على أوراد من ضرب: “اللهم صل وسلم على عين الحق” و “عين ذاتك العلية”، ووصف النبي بالأسقم وغير ذلك.
دراسة قيمة للغاية، هذا ملخصها فما بالها مفصلة، اعتقد ان طغيان التاريخ السياسي في الحجاز قبل الدولة السعودية واثناء قيامها جاء على حساب التاريخ الفكري الثري الذي أسس الهوية الحجازية الاستثنائية وهو قيمة هذه الدراسة التي أتمني ان تتبعها دراسات اخرى مماثلة لإزاحة الغبار عن تاريخ واحدة من اعظم الفترات التي شهدت بناء وتطور مجتمع الحجاز الفريد الذي تميز بأروع خصوصية وتنوع وثراء حينه،
دراسة قيمة .
مع تواصل مد التجهيل وإساءة الفهم ، ثمة فضائيات لها مشاهدوها ، اعلنوا خبث وتكفير المتصوفة واتباع الطرق، وهذا تجني خطير ، نشا من المد أحادية الفكر وقولبة البشر على نسق واحد.
تحياتي
قراءة متمكنة في تاريخ التصوف في الحجاز، ومجهود تثقيفي و”تنويري” ثري تشكر عليه، أخي محمود. أتطلع لقراءة الدراسة كاملة. بارك الله جهودكم ودمتم ذخرًا وفخرًا للأمة.
الفقرة الموجودة في النص أعلاه ( والسنوسي اتصل بالأسانيد العالية لعلماء الحجاز الكبار: ابراهيم الكوراني (توفي 1697م)، حسن العجيمي (توفي 1701م)، وصالح الفلاني (توفي 1803م) [2]، وهو كثيراً ما يذكر الفلاني والكوراني في مؤلفاته، ومن المثير أن نرى أن كلاهما كانا مُهتمّان بقضية الإجتهاد.. تماماً مثل السنوسي، وقبله شيخه ابن ادريس).
تحتاج تفسير عن كيفية الاتصال بين من توفى عام 1701م والاخر عام 1803م وبينهم أكثر من مئة عام .
أما باقي ماذكر يعكس مقدار المجهود الجبار والمذهل في جمع هذا النص بهذا الترتيب وفقك الله.
الاخ سمير : الاتصال بالسند و التواتر و أخذ الاجازة من مشايخه أي علمه و رباه ووثق في علمه و ادبه شيخه ، على اثر ذاللك ياخذ الاجازة
ذكرت الطريقة السنوسية مع فروعها وهي بهذا الكم الهائل من المعلومات
فما بالك بباقي الطرق الصوفية الموجودة كانت في مكة واصحابها
انه بالفعل تاريخ معظم