قبل اسبوعين زارنا نعوم تشومسكي مُحاضراً بكلية بيرنارد التابعة لجامعة كولمبيا/نييورك. وقتها انسكبت الطوابير في الطرقات الى كيلومترات، كحزم ضوء تتصل مع استدارة الأفق.
كان مشهداً جديداً ليسار يستعيد صلته بالجماهير بعيدا عن أُطر ودوائر الانتلجنسيا المغلقة. يسار يصعد خطابه على وقع حركات التحرر والاحتجاج والثورات المُلتهبة: الربيع العربي، احتلّوا وول ستريت، مظاهرات أثينا ومدريد ولندن وروما، الحركة العمالية في ويسكانسون، عاصفة ويكي ليكس. يسار عالمي يستعيد وزنه ضداً على تغوّل العولمة أحادية القطب، واستفراد النخب والسياسات المهيمنة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
مِلت على مُساعِدة تشومسكي الشخصيّة، وعضده الأيمن في السنوات الأخيرة، بيفرلي ستوهل، معلناً عن رغبتي في لقاء الأستاذ لتوثيق شهادته عن روح المرحلة في حوار فيديو كبسولي مصمم لأجيال الاعلام الاجتماعي والجديد. قالت سأمنحك 10 دقائق بمكتبه الأسبوع القادم، فوافقت على الفور! .. لاحقاً كان البروفيسور تشومسكي سخياً بمنحنا ثلاثين دقيقة وتزيد!
الى بوسطن رافقني زملاء كلية الصحافة: دانيال مادينا، وكاترينا كليرتشي.
كل شئ في حرم معهد ماساشوستس للتقنية مرسوم بقدر، حيث لا مجال للإرتجال او الخطأ. بدءاً من التخطيط الحضري الصارم الى حركة وتدفق الطلاب والبشر. التمرد “الظاهري” الوحيد في تلك البقعة شديدة الهدأة والتنظيم هو من نصيب عمارة مركز ستاتا -من تصميم فرانك جيري- التي تلوح في الأفق بهجنتها ونتوءاتها الاسمنتية المتراقصة وألوانها المتنافرة – شاهدة على العمارة التفكيكية ما بعد الحديثة.
في جوف تلك العمارة المتمردة على نواميس ملئ الفراغ يتوسد مقر كلية الفلسفة واللسانيات بالطابق الثامن، حيث جناح رقم 840 لأستاذ الفلسفة واللسانيات مدى الحياة، البروفيسور نعوم تشومسكي، المتمرد الأشرس على مستوى ممانعة “السيستم” السائد، وعلى مستوى ادانة سياسيات الهيمنة الإمبريالية لبلاده – حد أنه رُمي في أكثر من مناسبة بالخيانة وتسميم الروح الأمريكية !
الممر المؤدي لمكتبه مغلف ببساطة طاغية حد التقشف. مسكونٌ بسمْتْ راسخ قلما تخطئه عن باقي أجواء مؤسسات أمريكا الأكاديمية العريقة. ثمة أبواب أخرى كانت مواربة، لأساتذة فلسفة ولسانيات، لا شك ان لكل واحد/وواحدة منهم وزنهم وثقلهم وقيمتهم، لكن في حضرة “الأستاذ” ينتفي في مخيلة الشاب منّا المنطق السليم للأمور.
هنا تشومسكي، امتداد عظماء الفكر والفلسفة والأكاديميا بالقرن الفائت أمثال بيرتراند راسل وألبيرت آنيشتاين. ورمز اليسار السامق الذي يعد أكثر مُفكر على قيد الحياة يجري تداول اراءه عالمياً.
هو الى ذلك شديد الانشغال. جدوله يزدحم بالمحاضرات والزيارات وأوقات الدرس والتأليف والبحث.
على مقاعد الانتظار سبقنا طالب يحضر الدكتوراة.. كان يتفاوض مع مساعدة تشومسكي على لقاءه. لاحقاً اقترحت عليه، في حوار بدا عائلياً، ان يُرافق البروفيسور تشومسكي حينما ينزل الأخير لاختيار خضرواته كون هذا سيمنحه ثلاث دقائق أكثر للنقاش في مسألته!
داخل جناح تشومسكي ارتصت ثلاث أو أربع مكاتب سكرتاريا ومساعدي تدريس في فضاء واحد مشترك.. ينفصل عنها مكتب تشومسكي الغارق، كصاحبه، في ملامح البساطة والألفة والحميمية.
خرج الينا تشومسكي معتذراً انه سيتمشي لدقائق في الممر.. واعداً بلقاءنا “رسميا” بعد تلك الدقائق المعدودة.
على مكتبه ارتصت مجموعة ضخمة من الكتب وُضعت بترتيب متفق عليه دلالة على تقاليد البحث الصارم. في وسط الحيز تأخذك فوراً لوحة ضخمة لبيرتراند راسل، يستعلن فيها تشومسكي نسبه الأصيل لذلك الجيل من الفلاسفة، كُتب عليها على لسان راسل: “ثلاث أشكال للشغف استحوذت على حياتي، بسيطة لكن مضنية في آن: شغف الحب، شغف البحث عن المعرفة، وشغف المعاناة القاسية لعذابات الانسانية”. ثم ثمة تذكار فِص حجري في ذكرى زوجته كارول شاتز التي رحلت عنه قبل ثلاث آعوام، ومُلصق كبير في الركن المقابل يتضامن مع حق اعلان دولة فلسطين – كان تشومسكي قد أصرّ قبل رحيلي ان أصوّره وأرسله لأصدقائي من المدونيين العرب بحسب تعبيره.
ولكن أين هدير تشومسكي عن الشارع؟
يطيب لتشومسكي اخذ خطوة واحدة الى الخلف دوماً، ثم هو حينما يتقدم انما يفعل من دون أستذة او غرور ذاتي – اذ يخشى من أن تسلب الكاريزما الطاغية خاصته الحراك العفوي الذي يعشوشب تلقائياً، ويتجذر، في ميادين الـ Grassroot Movements !
هو من اوائل من أقرّ بعفوية هذا الحراك الصاعد، وتميّزه وتقاسمه الملامح عالمياً في عصيانه على التنزل تحت قيادة حزبية او خطابية.
لكن تأخر تشومسكي عن زيارة مقرات الاحتجاج -عربياً وأمريكياً- يوازيه حضوره الطاغي على مستوى صناعة الأفكار وبلورة العقيدة السياسية الاحتجاجية.
ذهب تقرير أخير بمجلة التايم، الى ان أكثر الكتب تداولاً في حديقة زاكوتّي، مقر اعتصامات حركة أوكيوباي وول ستريت، هي من نصيب رموز اليسار؛ نعوم تشومسكي، الراحل هوارد زين، ونعومي كلاين.
لسنا نغفل أدوار الفيلسوف الماركسي الجديد، السلوفيني المولد، سلافوج زيزيك، الذي أقر في حوار تلفزيوني تزامن مع زيارته لاحتجاجات نييورك، بعصيان هذا الحراك عن التلون بلون أيديولوجي بعينه، وهو، وان عبّر عن استياءه من عدم تبلور مطالب واضحة لهذا التكتل الاحتجاجي المتنامي عالمياً، رفض في الوقت ذاته ادانتهم ونعتهم بالفوضوية، معتبراً ان أي تغيير يستلزم قبلاً تخمّره.
تشومسكي بدا أثناء التسجيل مهموماً، تماماً مثل أي وقت مضى، بمقاومته لما يسميه “البلوتوقراطيّة” (Plutocracy)؛ أي هيمنة الطبقة النافذة مالياً وإحكامها القبضة على الاقتصاد والموارد. “مجاميع احتلال وول ستريت يرفعون شعار نحن الـ99%، مقابل الطغمة الحاكمة الباقية،” يقول تشومسكي، قبل أن يستدرك، “وان كانت النسب فيها حد من المبالغة، إلا أنهم علي حق. ثمة 15% تتحكم في مفاصل هذا البلد، فيما الباقي يراوح التهميش ويتفاوت في درجته.”
تشومسكي المأخوذ بثورتي تونس ومصر، بحراك شباب ستة أبريل، والحركة العمالية بمصر بقيادة كمال عباس الذي لا يفتئ من الاشادة به، أصرّ في نهاية التسجيل ان تصل كلمته للشباب العربي. طمأنته الى ذلك، والى شعبيته العريضة.. فأجاب: “أبحث جدياً عن فرصة قريبة لالقاء محاضرة في القاهرة!”
[لمشاهدة اللقاء المُسجّل.. انقر بالأعلى ! ]
عطوفة مولانا محمود..
كل عام وأنتم بخير. لم تزل ثمار رحلتك العلمية الى كولومبيا، تغري ذائقتنا العطشى بالمزيد. منذ اليوم الأول كانت قطوفك دانية، لذيذة، وكاملة النضج. 16 صورة فوتغرافية كشفت لنا مكامن وأسرار، وتاريخ محظنك الجديد. كنا نعرف أنك هناك، تماما كما أنت هنا، مدونا عن الصوفية في الحجاز، وقطعة فريدة عن حكم مكتك التي تحبها وتحبك. وأخرى كيد سمحة تدفع للأمام جيل جديد يقدم لنا الإعلام الجديد في وجه حسن، وغيرها من التدوينات التي تؤكد أنك تعرف ماذا تريد، وتخلص لكل ما تريد. لقاء البريفسور نعومي تومسكي أزهر حقلك المثمر في وقته. جاء طازجا ومتزامنا مع أوراقنا المترنحة في هواء ربيعنا العربي الساخن. يقينا أنه رجل يعرف الحجارة الكريمة، وكانت موافقته للحديث معك، شهادة تستحقها تظهر فرادتك، وجرأتك المهنية، وإيمانك التام حتى اليقين بمهمتك، ودروب حياتك العلميو والعملية الجديدة.
كمتابع بليد لا يجيد الأنجليزية، بهرت بالتصوير، وحركة الكاميرا، ونقاء الصوت، وذكاء المونتاج. كانت الرسالة واضحة حتى لو كان المتابع لا يجيد لغة تشومسكي. كما كان فضاء المكان ببساطته، وعفوية ديكور مكتب البروفيسور، تجعل الرسالة قريبة من المتلقي، يدعمها لقطات ذكية تراقب حركات اليد، وطريقة جلوس المتحدث العفوية والبسيطة. كان كمن يتناول معك كوبا من القهوة، ليخبرك بشئ هام، دون أن يثير الفزع في نفسك، ودون أن يفقد القهوة نكهتها.
الحوار المصور، دعمه تقريرك المكتوب بحرافة واضحة. لم تردد ما جاء على لسان الضيف، كان التقرير وجها آخر للقاء، منحه عمق يستحق الإلتفاف والتفكر فيه. ليس أقل من عكسه لمكانة الأكاديمي في جامعته ومجتمعه، وكيف يؤثر رجلا في العقد الثامن من العمر في خريطة العالم السياسية والإجتماعية في آن. فضلا عن التواضع، واللقطات السريعة عن حياة هذا الكبرياء المتواضع المتوج بشعر كجداول من فضة.
هي مجرد إنطباعات، باعثها الإعجاب والمحبة بما تقوم به من جهد ينوء بحمله العصبة من الرجال.
وفقك الله، ومدك بوافر العون والطاقة والسداد.
عمر
سبّاق دائما يا سيد عمر لكل ما فيه حدبٌ للصجافة الجيدة والمثابرة.
انت من نسيج فاخر نقي، خذلته كما باقي الجيل، أقدار المجتمع الأبوي وسوء حال مؤسسات الصحافة.
سعيد لأنك حاضر هنا دائماً. أمثالك في القلب والحاطر مهما تباعدنا في المطارح.
عيد سعيد أبا عبدالمحسن.
اول مرة آتي هنا .. ويبدو أني سوف أمرّ دائما وأتطفل دائما على مدونتك أستاذ محمود
ليتني كنتُ أعرف عن هذا اللقاء في جامعة كلومبيا .. ربما أتاحت لي الفرصة بحضوره كوني هنا في نيويورك ولأني أعشق فكر هذا الرجل العظيم
بهرت بنعوم تشومسكي منذ أن قرأت كتابه الدول المارقة منذ سنوات .. عرفت حينها معنى أن تكون فيلسوفا سياسيا تأتي من جسد تلك الدول المارقة ..
أخي الاستاذ محمود ما كتبته هنا رائع جدا ولا ازيد على ما قاله مولانا المضواحي لأنه أهل الكلم والمفردة أكثر مني
استمتعت وأفدت كثيرا بالزيارة وبعمق ما كتبته .. كل التوفيق لك وأعانك الرحمن على أداء رسالتك لنا .. نحن الذين لا نعرف إن كنا نعيش ربيعا عربيا ساخنا أم خريفا باردا
أبركها من ساعة أستاذة حليمة.
نييورك محظوظة بطلتك.
ملاحظة : هل يمكن ترجمه المقطع 😦
سوف يترجمه الأصدقاء قريباً. شكزا متعب.
أمتعتنا يامحمود كعادتك…
تباً لصحافتنا الهرمة التي تحرمنا من هكذا أقلام…
قلمك الرائع جعلنا نعيش اللقاء كأننا معكم…
تعبيرك ساحر.. اشكرك على غنى المعلومات و على المتعه اثناء تفاعل خيالي مع الوصف.
ممكن ايميلك اخي الكريم
اللقاءُ مترجماً. وكل الأسف على التأخر بسبب السفر 🙂
Thanks Mahmoud, Im a student majoring in Sociology, i loved what you post here. Thanks to bring the video of Noam Chomsky to us, u cant imagine how much i admire this thinker. in Sociology class i study about Noam Chomsky and Howard Zinn and that help us to link the reality to the knowledge that we have.
I will share this with my professor
أخي الاستاذ محمود.تحية طيبة وعيد مبارك وكل عام وانتم والوالد والاخوة الكرام بخير.:لقد فاجأتنا بمفاجأة سارة :ما هذا نعوم تشومسكي يخاطبنا نحن العرب من خلال أبن جاد من أبنائنا.لم يذهب محمود الي تايم أسكوير وأماكن اللهو بل ذهب الي قصر الثقافة المعاصرة والي كبير فلاسفة العصر المدافع عن الحريات وعن حقوق الانسان في زمن ضاع ف يه الانسان .وسرقته انظمة فاسدة مستبده سرقت الارض والثروة .وشاء الله ان يطل فجر الحرية حتي لاتأيس الاجيال ونقول ما فيش فايدة !! لأ لأأ سيغير الله الحال ويخرج رجال الي الشوارع لا يهابون الموت ويسقطون الظالمين.لقد بشرنا نعوم بسقوط هذه الدول الغربية وقد تحققت نبوءته. وهكذا ينتقم الله للمستضعفين فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس .شكرا محمود