جناية “المركزيّة” على دور الجامعات التنويري

تأسست كلية البترول بالظهران عام 1962م على يد الرمز الوطني الدكتور صالح أمبا.

الجامعة التي يضرب بها المثل اليوم كنموذج أكاديمي وعلمي رصين، كان الأمبا قد أراد لها أن تتفتق عن نموذج أكاديمي واجتماعي- في آن.

كانت النشاطات العلمية والفنية والثقافية والرياضية تجري في استقلال تام عن السلطات الادارية الجامعية، ما أفضى الى تشكيل أول “رابطة للطلاب” (اتحاد شباب الطلبة) في تاريخ المملكة عام 68م؛ قامت على مبادئ الانتخابات واسهام الطلاب في التمويل عبر الاشتراكات الشهرية. 

ويروي شهود المرحلة؛ طُلاب البارحة، ورجالات المجتمع اليوم، كيف كان الدكتور الأمبا عميد الجامعة يقتحم الغُرف بسكن الطلاب ليحثّ الطلاب على المشاركة والتصويت، كي لا يفوتوا الفرصة النادرة التي اُتيحت لهم. 

كان الأمبا عميداً أسطورياً لم يتكرر. كان حرصه على جودة التعليم يدفعه على تحمل مصاريف علاوات أعضاء هيئة التدريس المتميزين من حساب امتيازاته الوظيفية. جلب معهد البترول الفرنسي في باريس في بدايات التأسيس، ولارتفاع المدّ القومي حينها، جلب الدكتور العملاق قسطنطين زُريق للتدريس بالجامعة. 

كانت جامعة البترول منذ تأسيسها مطلع الستينات الى مطلع السبعينات، بيئة اجتماعية منفتحة، منظمّة، ومتحضرة. “تشكلّت فيها الجماعات المختلفة في كافة الحقول المعرفية والاجتماعية والفنية، ومنها جمعية “نساء الكلية”، التي ضمّت مدرسات اللغة الانجليزية وزوجات الاساتذة الجامعيين والموظفين،” كما يقول علي الدميني، أحد الطلاب في المرحلة التأسيسية.

كانت الجمعية النسائية تدعو أول كل عام الأساتذة والطلاب الى حفل تعارفي درجت على اقامته مطلع كل عام دراسي. كان الحفل يتم في اختلاط نبيل، وبتسامح رفيع، تحت مراقبة تربوية وأخلاقية. لقد عبّر الطالب علي بن غرم الله الدميني – عن تجربته كقروي بسيط قادم من أحد قرى الباحة جنوب الحجاز في تلك الأجواء الجديدة: “حين دخلت الصالة الكبيرة، التي اكتظت بها الوجوه المختلفة، والأزياء المتنوعة، أحسست بغربة وتناقض، وهزّني الخوف من اختراق السائد والمألوف، الى أن تلعثمت في الكلام، وحنيت رأسي في الأرض … قبل أن يسعفني أصدقائي القدامى في الجامعة بتعريفي على النساء، اللاواتي كن كثيرات، ومن هؤلاء االنساء أستاذة اللغة الانجليزية (مسز هيل)، والسيدة عائشة الفاسي، ومليحة البريكي، وغيرهن”.

كانت السيّدة عائشة الفاسي، حرم عميد الكلية الأمبا، ناشطة اجتماعية من طراز رفيع. (ولاحقا ناشطة سياسية، خلفية اعتقالها مع زوجها الأمبا بتهمة الانضمام الى الأحزاب السياسية العمالية والحقوقية في المنطقة الشرقية ابّان أيام المد القومي الملتهبة). لقد عمل الأمبا والفاسي على بلورة النشاطات الاجتماعية ودعم عمل المرأة بالجامعة والى اقامة الحفلات الموسيقية وحفلات السينما واثراء الجانب الترفيهي لمنسوبي الحرم الجامعي من أساتذة وطلاب وأهالي.

وبحسب الدميني في شهادته الثرية: “فقد فقدت الكلية باعتقال الدكتور الأمبا، وحرمه الفاسي، أنموذجها الحضاري.. وما لبثت ثقافة الصحراء ومكوناتها القيمية المنغلقة أن أحكمت حصارها للأنشطة الاجتماعية ولعمل المرأة،” ويضيف “لقد كان اعتقال الأمبا مثار دهشة، حيث أنه في أول محاضرة ألقاها على الطلاب المستجدين عام 68م، قد ركّز على ضرورة التحصيل الأكاديمي وعدم الخوض في مسائل السياسة الشائكة.”

لقد تزامن التضييق الرسمي على الفعاليات القومية آواخر الستينات، مع بداية صعود أفكار جماعة الإخوان المسلمين وجماعات التبليغ وتيارات “الصحوة” الدينية في أوائل السبعينات، التي ساجلت الأغلبية القومية الفكرية والليبرالية-الاجتماعية المنتشرة بين الطلاب على مدار عقد كامل حتى دانت لها الساحة في مطلع الثمانينات مع سياسات المهادنة الرسمية خلفية احتلال جهيمان العتيبي للحرم المكّي في 79م.. اضافة الى ما “آلت اليه الطفرة من ركود وفشل لخطط التنمية الاقتصادية والبشرية، وتأزيم الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين،” كما يقول الدميني. 

بدورها نالت جامعة الرياض (الملك سعود لاحقاً)، والتي تأسست كأول جامعة سعودية رسمية، ذات المصير من الردّة. 

في الشهادة التي قدمها الدكتور عبدالمحسن هلال، أحد طلاب الدفعات الباكرة في جامعة الرياض، وأستاذ السياسة في جامعة أم القرى لاحقاً، وصف للتحولات التي طرأت على مسيرة الجامعة.

محسن، الفتى المكّي المغترب، وَصَف الجامعة عند تأسيسها كأول مشروع وطني تقدمي يلغي الفروقات، ويؤسس لإنصهار الذات السعودية الصاعدة. “كانت الوجوه مختلفة متباينة، كان منا القبلي والحضري، وكان فينا الفقير والغني، وكان فينا المثقف المطلع وكان فينا أيضا خريج الثانوية فقط،” يقول هلال، “لعبت جامعة الرياض، إذا استثنينا ارامكو، أول دور وطني في إذابة الفوارق الاجتماعية بيننا، كانت بمثابة البوتقة التي صهرتنا فصرنا أخوة مُتحابين يجمعهم التنافس الشريف. عشنا سنين عزابا في الرياض، ولم ألحظ الحدة التي أراها اليوم في كل مدينة في التعامل مع العزاب.”

والحقيقة ان جامعة الرياض منذ تأسيسها في1957م كانت رمزاً للاستقلال الوطني وتعبير صارخ عن الذات السعودية الصاعدة. كانت منسجمة مع قدَرها كجامعة في لعب دورها المناط في تغيير الوضع الاجتماعي فكراً وعلاقةً وتنظيماً. 

يقول هلال، “في الجامعة كنا خلية نحل متحركة، فبجانب المحاضرات والدروس كانت هناك ندوات دينية وثقافية وفكرية، بجانب المختبرات والمعامل وُجدت فرقا رياضية وتنافسا كبيرا بين الكليات، كانت هناك رحلات ترفيهية وتعليمية على مدار العام، كان هناك، من يصدق، صالات عرض سينما ومسرح للتمثيل، أذكر أنني شاهدت الفيلم الرائع “صوت الموسيقى” داخل الحرم الجامعي بين طلاب وأساتذة الجامعة، وضحكنا كثيرا على من صاح بيننا “عظمة يا ست” تعليقا على من كانت تغني في الفيلم على طريقة أم كلثوم.” ويستمر هلال: “مثلّت على مسرح الجامعة ولعبت في فرقها الرياضية، وتغذيت كثيرا من حركة التنوير التي كانت دؤوبة في ردهاتها، كنا نقضي معظم يومنا في الجامعة بين أنشطتها العلمية والترفيهية، وبينهما انحصر نشاطنا، فنعمنا ببيئة علمية فاعلة.”

 كان أساتذة الجامعة في المرحلة التأسيسية عمالقة يدركون ضرورة تأثيرهم التنويري؛ الفكري والتربوي، الذي ما كان لهم ان يضطلعوا به الا في ضوء الحريات الأكاديمية الممنوحة لهم في تلك الفترة الذهبية. كان هناك البروفيسور حسين السيّد عميد الجامعة، بصرامته الأكاديمية وتسامحه الاجتماعي، و د. محسون جلال، الإداري والمعرفي العظيم وأستاذ الأجيال وصاحب النظرية الشهيرة: “زراعة النفط”، اذ كان أول من دعا منذ وقتٍ باكر لتنويع مصادر الدخل الوطني استفادة من عوائد بيع النفط. الى ذلك كان هناك الدكتور والمصرفي السعودي الرائد يوسف نعمة الله، “الذي أرانا كيف يمكن للريال الواحد أن يصير، على يد مصرفي ماهر، مئة ريال، فعرفنا مفردة الائتمان لأول مرة،” كما يقول هلال. ورجل القانون المهيب د. محمد الملحم، ذي المعرفة الموسوعية. وعملاق آخر منحوت في الوعي الجماعي، د. غازي القصيبي، “الذي كنا نقاطع دروسه في العلاقات الدولية لسماع شعره الحداثي،” كما يقول هلال. 

هكذا انطلقت الأمور.. قبل أن توغل في التراجع مع استفراد المركزية والسطوة البيروقراطية مع انشاء وزارة التعليم العالي عام 1975م، وما تلاه من اصدار لنظام التعليم العالي والجامعات، الذي يتصارع مجلس الشورى آنياً لتغييره، في ظل شراسة شديدة من طرف وزارة التعليم العالي التي تمانع المساس بجوهر مركزيتها المتغوّلة بتاتاً. 

* هذا مقال قديم، أُعيد تجديده مع بعض التغييرات الطفيفة. 

الإعلان
هذا المنشور نشر في مٌباشرة للتدوين, احتساب 2.0. حفظ الرابط الثابت.

11 Responses to جناية “المركزيّة” على دور الجامعات التنويري

  1. قرأت كتاب الدكتور محمد الخازم حول موضوع تراجع الأكاديميا السعودية ، وكان الكتاب مؤلما وصادما بقدر ثرائه..

    الكتاب اسمه (اختراق البرج العاجي- قراءة في التحولات الجيوسياسية التي أثرت على التعليم العالي)

    مقالتك ثرية ومحزنة بسبب أن تعليمنا العالي ينحدر بعدما كان رائدا في زمن الريادة..

    كم هناك من المياه في أفواه الحزانى..

  2. تدوينة رائعة ..
    الماضي التنويري الجميل لجامعتنا يهبني المزيد من الأمل لمستقبل أجمل..

  3. محمد احمد كتب:

    موضوع رائع جداً, ماذكرته سمعت عنه من جيل ال70 وبعضهم عاصر الفترة الانتقالية وكيف تم تكسير نادي الموسيقى و ايقاف السينماء

    عاصرت جامعة البترول في مرحلتين من 1987 الى 1992 بيكالوريس و من 1998 الى 2001 ماجستير ومع الاسف اغلب نشاطات الجامعة تحت التيار الصحوي باسم الجوالة, لم تكن هناك انشطة ثقافية او اجتماعة واي نشاط جامعي يكون لهذا التيار اليد فيه, بالاضافة كان اقصر طريق للحصول على بعض التميز لدى بعض دكاترة الجامعة, والاسوء من ذلك كله كانت الطائفية مستعرة عند الطلاب والدكتارة لدرجة ان بعض اصدقائي اخذو F في مواد اسلامية لمجرد نقاش ساخن من دكتور المادة!

    ياليت تلك الايام تعود وشكراً مرة اخرى

  4. مقال مميز.. المحزن في الوضع أنه لاتوجد هناك رغبات ودوافع لدى القائمين على التعليم على تطويره خوفاً مما هو قادم, وبدلاً من اعداد العدة, تراهم يلتزمون بمبدأ النعامة.. يتجاهلون المستقبل ويدفنون رؤوسهم في تربة الماضي..

  5. مرعي القحطاني كتب:

    عيثاً يحاول الصباغ أن يقنعنا أن ثمة انفتاح ” مفترض” تم اختطافه متناسياً أن النسقية الثقافية الحقيقية للثقافة الصحراوية كان ومازال متواجداً إلى يومنا هذا ولم ينقطع أبداً أما ( الكانتونات) المعزولة في الصحاري كأرامكو وجامعة البترول فهي بالنهاية كانتونات أسستها نخبة لا امتداد حقيقي لها على الأرض , تلك الأرض التي لم تعرف سوى التشدد والتنطع وفتوحات إخوان من طاع الله وفتاوى محمد بن ابراهيم آل الشيخ وغيره والتراث المرعب في الدرر السنية وتاريخ بن غنان وتاريخ بن بشر , الإستثناء الجغرافي في الجزيرة العربية كلها كان في حواضر الحجاز وعسير تلك التي ( كانت) منفتحة بفعل الجغرافيا وفعل الأقدار التاريخية , فلا داع أبداً لإدعاء أن ثمة انفتاحاً كان موجوداً في الصحراء تم وجرى اختطافه على يد الصحوة !!!

  6. رصد جميل أيضاً يا محمود.
    تجربتي في جامعة الملك سعود كانت في نهاية فترة الانفتاح الرياضي التي توقفت كلياً عام 85. لكن خلال السنوات التي أمضيتها من 82 إلى 85 كانت المباريات الرياضية بين طالبات السكن والخارجي تجري كل فصل والتمارين الأسبوعية تجري في القبة الهوائية في مبنى الطلاب بالدرعية صباح أيام الخميس وينتهي العام بتوزيع الميداليات على الفرق الفائزة، وما زلت أحتفظ بميدالياتي الذهبية والفضية من مباريات كرة السلة والطائرة والطاولة. فضلا ًعن الاستعراضات الرياضية التي كنا نختم بها النشاط الرياضي والتي أوقف أخرها ونحن في منتصف العرض نهاية عام 85 لأن الهيئة سمعت صوت موسيقى وهم يقفون خارجاً بانتظار خروج النساء.
    تلا ذلك مرحلة تحريم الرياضة من كل المدارس الخاصة والحكومية والجامعات.

    شكراً يا محمود.

    ورحمك الله يا عمتي عائشة.

  7. SA كتب:

    مقال رائع وحزين في نفس الوقت مع ما آل اليه التعليم في بلادنا والاعتماد بشلك شبه كامل على الجامعات الأهلية ، عندما سئل وزير التعليم العالي عن عدم كفاية الجامعات الحكومية لطلاب الثانوية العامة حيث انها تكفي للتلثين فقط اجاب الاماكن في الجامعات الحكومية والاهلية تكفي لكل الطلاب فنحن نشجع من لم يحظى بالقبول في جامعة حكومية ان يتجه للاهلي “تشبه مقولة ماري انطوانيت الشهيرة عندما اشتكى الشعب من عدم وجود الخبز بأن يستبدلوه بالبسكويت”
    والجميع يعلم ما يحدث في الجامعات الأهلية من واسطات وتعيينات لأشخاص غير مؤهلين اكاديميا وايضا لاستنزاف الأهالي لمبالغ خيالية تجت سمع وبصر وزارة التعليم العالي.

  8. حسن عبدالشكور كتب:

    لا فض فوك أخي محمود..و لقد أستمر نهج الدكتور الأمبا في كلية البترول سابقا و جامعة البترول لاحقا .حيث أستمر الدكتور بكرك عبدالله بكر على نفس النهج و بعد ذلك ..تغير الجامعة إلا شيء لم يعهده ايا من خريجي الحقب السابقة و أنا منهم. (1973-1978)

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s