كي لا يتحول ماضي الحجاز لأسطورة: نزعاً لشئ من فتيل الأوهام..

بوست كارد: المناخة!

بوست كارد: المناخة!

في مارس 1917، بعد أشهر معدودة من اجلاء الإتحاديين عن عاصمته مكة، منع الشريف حسين دخول الخمور الى الأقطار الحجازية بموجب مرسوم عام [1].. فابتاعت الحكومة من التُجار الأجانب الموجودين في جدة كل ما لديهم من قوارير الخمر وكسرتها واراقت محتوياتها في مياه البحر.

وكان الحسين لا يتسامح في مكة، مع حفلات الطرب داخل بيوت الأهالي كما يذكر عبدالله عبدالكريم الخطيب – المُعاصر لتلك الفترة- في مذكراته “كيف كنا؟”.

وسُلمت المدينة المنورة للأميريّن علي وعبدالله المدجّجان بقواتهما العربية بعد ظُهر الرابع عشر من يناير 1919 بموجب اتفاقية الهدنة مع العثمانيين، ومن بعد حصار قاسٍ طويل.

وفي منتصف مايو من العام ذاته.. أصدر كل من قائممقام المدينة المنورة، ووكيل رئيس البلدية ومدير الشرطة فيها تعليماتهم بمنع “الأهالي من الملاهي”.. حيث مُنع لعب النرد والكاغد وماشابهمها من انواع الملاهي.. وأُمر بعدم استعمال الحاكي (الفونوغراف).. كما مُنع الأهالي من الجلوس في المقاهي عند اوقات الصلاة [2].

واقر حاكم المدينة، الأمير علي، شكل العقوبة على شارب الخمر بالأخذ الى الجُندية والارسال قسراً لتعمير سكة الحديد الحجازية في الوصلة الواقعة من شمال تبوك الى محطة معان.

كما مُنع الباعة من لف الاشياء بالأوراق المكتوبة لان الحكومة الحجازية رأت ان ذلك “ينافي الشرع”. [3]

وسمع قائم مقام المدينة الشريف شحّات، في يوم الاثنين 16 شوال سنة 1337 – الموافق يوليو 1919 الطروس تدق باتجاه مرقد سيّدنا مالك بن انس – فيما البسطاء متحلقون حولها يظنون انها عبادة – فطلب إشخاص اصحاب الطرس اليه ووبخهم توبيخا مؤلماً وصبّ على الطرس الكاز وحرقها وقال لهم: “اياكم ان تعودا لمثل هذه البِدع السيئة” [4]. وعلّق مراسل جريدة القبلّة بالمدينة،  محمد شكري البغدادي على ذلك الخبر: “تفتخر الحكومة المؤيدة الهاشمية ان مأربها اقامة الحدود الشرعية وازالة البدع والخرافات” .. ضداً على ما اعتبره تراخي “الحكومة البائدة الإلحادية”.

وشكّلت الحكومة العربية في الحجاز هيئة تتألف من احد مأموري محكمة جدة الشرعية واحد مأموري بلديتها ومعاون مدير الشرطة للنظر في الممنوعات التي يجري ضبطها من قبل مأموري الرسوم في ميناء جدة. واوردت صحيفة القبلة في الأول من سبتمبر 1919، تحت عنوان، “عناية الحكومة بازالة المنكرات”، ان مأموري الرسوم في جدة ضبطوا ما ينوف عن خمسة آقات من الحشيش المعلوم الذي من المخدرات – وقد جرى حرق الحشيش بصورة رسمية امام الهيئة المُشكلة. [5]

لكن الحكومة العربية كانت تتسامح أيضاً ازاء الألعاب الشعبية كالمزمار البلدي والرفيحاء الينبعاوية والدف الحضرمي والألوان العتيبية والدمّة العسيرية، كما تتسامح ازاء الموسيقى العسكرية التي تصدح في المناسبات والأعياد حتى انها انشأت جوقتها الموسيقية العربية الحجازية الخاصة المكوّنة من 24 فرداً، وعلمّتهم النوتة في المدرسة الحربية بجرول حيث كانوا يتمرنون لثماني ساعات يومياً كما تذكر المصادر.

وكانت الحكومة تغض الطرف عن مناسبات السَمر للأهالي في ضاحية الزاهر (الشُهداء).. كما تتسامح كلياً مع تجارة واستهلاك الدخان والتنباك.. ثم انها كانت تحتفل في طقوس رسمية ضخمة بأعياد الأهليين: المولد النبوي، وليلة النصف من شعبان، وليلة الاسراء والمعراج، والحوْل الصدّيقي، وطقوس الزيارة الرجبية لسيّد الشهداء حمزة، وعيد الاستقلال والنهضة العربية، وذكرى جد الأسرة الهاشمية أبا نمي، كما تقيم حفل تكريم سنوي حول ضريح الولي السيّد عبدالرحيم المحجوب حسب العادة الجارية كل سنة في ذي القعدة – اذ كانت الطرق الصوفية تتمتع بترخيص رسمي وكان شيخ مشائخها هو السيّد عقيل الرفاعي شيخ الطريقة الرفاعية في مكة.

كما حملت الحكومة العربية بالحجاز موقفاً حضارياً من المسيحيين العرب.. حيث كان يتجنّس بالجنسية الحجازية مجموعة مختصرة من المسيحيين، الذين كانوا يحملون مناصب رفيعة وأوسمة رسميّة، مثل قسطنطين ينّي والاخويّن حبيب وميشيل لُطف الله.

الهوامش: 

[1] (القبلة: العدد: 59). 

[2] (القبلة: العدد: 282).

[3] (القبلة: العدد: 282).

[4] (القبلة: العدد 306).

[5] (القبلة: العدد 312).

الإعلان
هذا المنشور نشر في مٌباشرة للتدوين. حفظ الرابط الثابت.

18 Responses to كي لا يتحول ماضي الحجاز لأسطورة: نزعاً لشئ من فتيل الأوهام..

  1. PMO كتب:

    تدوينه رائعه ولكن قصيره للاسف لم تشبع شغفي . انا اصبح عندي إدمان على قراءة مقالاتك التاريخية الرائعة يا اخ محمود
    لانها فعلا تفيدني .
    انا مهتم بالتاااااااااريخ ومهووس بمعرفة الاوضاع بالحجاز اثناء عهد الاشراف .

  2. Rama كتب:

    هل لديك معلومات أكثر عن ضريح الولي السيّد عبدالرحيم المحجوب؟ نبذة عنه ومكان ولادته وقبره مثلا؟

  3. الشريفه كتب:

    مقال رائع ،نبغا نقراء اكثر عن تاريخ اجدادنا

  4. عمر المضواحي كتب:

    مولانا محمود .. دائما قليلك كثير .. وكثيرك قليل. ومن يقرأ لك مصاب دوما بمتلازمة العطش لحرفك وبيانك. أنت رائع في كل تدويناتك، وتعجز كلماتنا عن شكرك والتعبير لك عن إمتناننا لجهدك الوافر، والمجاني. دم لمحبيك،،،
    عمر المضواحي

  5. desert maniac كتب:

    استرعى انتباهي تجنيس المسيحيين العرب.. يا ترى هل بقيت أي من هذه العوائل الحجازية مسيحية لليوم؟
    فهناك تواجد لليهود في بلاد العرب كاليمن وبلاد شمال أفريقيا.. والمسيحيين الأقباط في مصر.. ولكن أين هم في الدول الخليجية الان (ومن بينها السعودية)؟

    • عائلة قسطنطين يني بقت في جدة حتى الستينات.. وكان احد ابناء الجيل الثاني منها يملك متجراً شهيرا بشارع قابل عُرف ببنك يني. اما الاخويّن لطف الله كانا مرتبطان بالنظام السياسي السابق، فرحلا برحيله.

  6. Suhail Attar كتب:

    تدوينة رائعة كعادتك
    فكان الأشراف حازمين مع المغنى خصوصا بما فعلوا بالشريف هاشم العبدلي وهو من ابناء العمومة كما ترددت الأقاويل إن صدقت بسجنه حتى مات بعد تسجيله بعض الدانات في مصر

  7. Hanan كتب:

    تدوينه رائعة تمتعنا دائما بمعلومات تاريخيه عن الحجاز نرغب فى المزيد شاكرة وممتنه لاثرائك لقراء مدونتك بمعلومات تاريخيه مهمه

  8. الأخ محمود:
    جزاك الله خيرا وزادك علما ولكن بالنسبة للخواجة يني أعتقد (والله أعلم) أن أسمه كان “يني خريستو” وأن دكانه “بنك يني” المشهور، حسب رواية الأخ محمد درويش رقام، أسسه والد زوجته “إيكيليا” الذي مات في جدة ودفن في مقبرة غير المسلمين المعروفة بإسم “الكنيسة”.

  9. عاطف نحاس كتب:

    تقصد عبدالكريم الخطيب على ما أعتقد !!

  10. أفنان كتب:

    عجبتني التدوينة لشغفي بمعرفة التاريخ ، بس ياريت كانت أطول ،أسلوبك بسيط و رائع في انتظار المزيد

  11. سطور مهمة جداً تعطي إنطباع حول عام حول تلك الفترة المنسية أو التي تم حذفها من التاريخ و تشويهها بشكل كبير لدرجة أن البعض صور لنا تلك الفترة في الحجاز أنها فترة ضياع كامل وصلت لدرجة الشركيات لأهداف معروفة !.. الحقيقة أدمنا على متابعة مدونتك ولازلنا في إنتظار المزيد أستاذنا ولازلنا بإنتظار شيء عن الطائف !

  12. Dalia Halawani كتب:

    رائعة جزاك الله خيرا نحتاج شويه اكتر

  13. Bander كتب:

    نحن حاضرة الطائف و بادية الحجاز نحتاج الى اخذ نصيبنا من قلمك اخي محمود
    مبدع دائما

  14. Emad alam كتب:

    رائع … ونطمع في فصل عن طائفة الزمازمة في مكة وأسماء العوائل التي اشتغلت بهذه المهنة. لك كل الود

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s