قرارات الملك: هل يقطع عبدالله مع ارث الدولة الريعية؟!

تهنئة: اتقدم ابتداء بصادق التهنئة لخادم الحرمين الشريفين لخروجه سالماً معافى من أزمته الصحية. حفظ الله الملك عبدالله وألبسه رداءيّ الصحة والعافية.. 

الفكر المؤمن بنظرته إلى شيء، نظرة خاصة، لا يسعه إلا أن يؤدي الأمانة.” – حمزة شحاتة. 

كتب: محمود عبدالغني صباغ

بحسب تحقيب البروفيسور ستيفن هيرتوغ، احد اهم المتخصصين في النظام الاداري السعودي، مرّ شكل السلطة في السعودية الحديثة بحالتي تحوّل كبرى: تحوّل -في نهاية الخمسينات- من الملكيّة المطلقة (absloute monarchy) الى شكل وزاري حقائبي (cabinet-rule)، ومن ثَم -ومع بداية عهد فيصل- تفتت الكيان الوزاري الى “حكومات” مصغرة او “محميّات” منعزلة (fiefdoms) فيما يخص الوزارات السيادية، وبعض اجهزة الدولة الحساسة.

ومع نهاية الخلاف بين سعود-فيصل (الممتد من عام 1958 الى 1962)، وانتصار مجموعة الأخير، وجد فيصل نفسه ازاء اتخاذ خيارات حاسمة وقاسية، فقام بمأسسة الدولة، وبناء جهازها البيروقراطي العتيد كما نعرفه الان. ولهذا تحديداً عُرف عنه مجازاً بأنه المؤسس الثاني للسعودية الحديثة. لكنه اعتمد، ولو اضطراراً، تركيبة المحميات البيروقراطية، كشكل جديد للسلطة، التي، ومع اكتمال اركان النظام الاقتصادي الريعي اضطراداً مع سنوات الطفرة، ترسّخ سلوكها وتأصلّت ذهنيتها، ثم، ومع سنوات العجز المالي كما سنرى، تكشفت جنايتها على الجسد البيروقراطي، وعلى آلية صنع القرار واصدار التشريعات.

عمل فيصل، مدفوعاً بالمصالح العليا، على امتصاص اي قوى منافسة -او شبه منافسة- ضمن جهاز الدولة البيروقراطي.

توزعت الوزارات السيادية على اخوته الأمراء الشبان المُساندين.

وعلى خلاف الفكرة السائدة، وما روجته الماكينة القومية واليسارية العربية عن “رجعيته”، كان فيصل تقدمياً، على الأقل حينما قام بتقنين سلطات عُلماء الدين في نجد وترشيد مُمانعتهم العشوائية وغير المحدودة، من خلال ادارجهم في اجهزة بيروقراطية قام بخلقها مثل وزارة العدل وهيئة كبار العلماء ودار الافتاء (1970 و1971) – التي طوى سلطاتها تحت الادارة المباشرة للملك.

ولأن السياسة تقتضي تقديم بعض التنازلات مقابل سحب الامتيازات، فقد قدم الملك للعلماء فرص ترسيمهم الوظيفي في اجهزة وزارة التعليم والقضاء وهيئات الأمر بالمعروف – مقابل تنازلهم عن حزم اصلاحية في مجال التجارة والضرائب. كان فيصل حاسما في اقرار تعليم البنات (1964) وادخال التلفزيون – ولكنه تنازل عن قانون المحاكم التجارية (في يونيو عام 1968) الذي رفضه العلماء بصرامة.. كما كان متعذرا البدء الفعلي في وزارة العدل (التي صدر مرسوم ملكي بإقرارها عام 1962)، الى عام 1970 اي بعد وفاة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ مفتي البلاد بعام واحد – الذي كان يقود جهود الممانعة.

وقنن فيصل سلطة القبائل ايضا في جهاز بيروقراطي هو الحرس الوطني او تحت لواء وزارة الداخلية حيث بدأ فهد (الوزير حينها) في صرف اعانات رسمية سنوية لشيوخ القبائل لضمان الولاء.

وتفادى كبار البيوت التجارية في الحجاز ونجد مصير التأميم كما حدث في باقي الدول العربية، بسبب مرونتهم ازاء التحالفات التجارية مع كبار الفاعلين في “محميّات” جهاز الدولة البيروقراطي، فباتوا بصورة غير مباشرة، جزء من الجهاز (هيرتوغ، صفحة 81).

وخارج اطار “المحميّات” احكم الملك فيصل قبضته على (السيستم)، الذي كان مركزياً الا في الوزارات السيادية وجهاز المحاكم.

وطبعت المركزية الشديدة الحكومة الناشئة بطابع السلوك الانعزالي بين الوزارات والمؤسسات العامة، كما تُركت مسألة تداخل الصلاحيات الادارية والقضائية تتفاقم دون معالجة.

وفي آخر الستينات، تداخلت صلاحيات وزارة المالية، ومؤسسة النقد العربي السعودي، والمديرية العامة للتخطيط الى حدود جد-متشابكة ومعيقة للحركة.

ووُرِّثت المركزية الى الصف الثاني من القيادات. وعُرف عن السيّد محمد عمر السقاف، وزير الدولة للشئون الخارجية، بأنه كان يحتكر فتح بريد الوزارة بنفسه في طقس يومي خاص! (هولدن وجونز، 266)

ولم تتوفر الحكومة على خطة عامة “ماستر بلان”، او جهاز مركزي مُعقّد ينسق بين الاجهزة البيروقراطية الناشئة مسارات التنمية الادارية والاقتصادية.

وعجزت الحكومة في عام 1970 عن اغلاق دفاترها السنوية نظراً لان الوزارات كانت اما لم تسلم بياناتها المالية في الوقت المحدد، او انها لم تسلمها بتاتاً.

اُستقدمت منظمة فورد للاستشارات المرموقة لتنظيم جهاز الحكومة، لكنها جوبهت بممانعة بيروقراطية رهيبة، حتى صرفها الملك فيصل عن العمل في مطلع السبعينات، مع حلول الطفرة.

ومع النمو الهائل للموازنة في سنوات الطفرة، لم تجد القيادة السعودية اي حاجة ملحة لإعمال اي اصلاح اداري او تشريعي، التي بدلاً منها، صير الى ابقاء القديم على قدمه، واستحداث اجهزة حديثة موازية. كانت الذهنية الريعية تستعلن عن نفسها بشكل غير اعتذاري.

وازاء ممانعة المحاكم الشرعية وعصيانها على التغيير او بطئها وعدم استعدادها، تم دائماً اختصار اي اصطدام، عبر انشاء أجهزة ولجان قضائية عدة تتبع عدد من وزارات التكنوقراط المختصة.

ومن حينها اخذ الجهاز البيروقراطي يتضخم ويفيض عن الطاقة الاستيعابية.. جناية تأجيل الاصلاح الجذري، او تجسيداً للفلسفة الريعية الكلاسيكية في توزيع الثورة، التي تقتضي منح وظائف حكومية جاهزة للمواطنين.

وهكذا وبدلاً من الالتفات الى أصل الخلل، كان الجهاز البيروقراطي يتغوّل وينمو دون انسجام وتتشابك اجهزته وتتداخل – واصبح اسلوب الاصلاح على طريقة “الجزر المعزولة” وخلق اجهزة موازية، هو المتبع بدلا من الاصلاح الجذري الشامل (wholesale reform).

لم ينظر فيصل بعين الرضا الى تدهور الجهاز البيروقراطي الذي رسّخه نظام الريع – ولكن يبدو انه كان من الصعوبة لديه بمكان تفتيت عوامل الممانعة التي نشأت داخله. نلمس ذلك في مشاريعه الطموحة التي تبناها واخرجها من المنظومة البيروقراطية وربطها شخصياً بذاته.. فالملك فيصل هو راع تجربة “الجزر الادارية المعزولة” التي تعمل بكفائة: كلية البترول والمعادن بالظهران، معهد الادارة العامة بالرياض، مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) بجدة، وبدرجة اقل: مدرسة الثغر في جدة.

وكانت كلها نماذج راقية في العمل المؤسسي الحديث في دولة كانت لاتزال نامية – غني عن الخاطر ان تلك النتائج لم تكن لتحصل سوى لاعفاء تلك المؤسسات من قيود البيروقراطيا الرسمية، ومدّها باستقلالية وملائة مالية جيدة – وربما نضيف عامل الهوامش القيادية العالية التي تمتع بها رؤساء تلك المؤسسات في انتزاع تميزها: صالح أمبا، فهد الدغيثر، البروفيسور أنور علي، والأستاذ محمد عبدالصمد فِدا، على التوالي.

ونحن نعرف الآن ان الملك فيصل حاول جاهداً تحقيق التوازن بين طموحات اخوته الشبان في الوزارات والاجهزة السيادية وتقنين جموحهم (راجع وثائق الخارجية البريطانية لعام 1969).

اُستشهد الملك فيصل -غفر الله له- في 1975، وشكل السلطة ما يزال تابعاً للحقبة الثالثة.. وصعد مكانه الى العرش ولي عهده خالد.

ولما كان الملك خالد زاهداً في الادارة و تفاصيل العمل البيروقراطي اليومي، فقد اوكل اغلب مهامه لولي عهده الملئ بجموح الشباب حينها: فهد. كان مشروع فهد كولي عهد ومن ثم كملك (بل ومنذ كان نائباً ثانياً لمجلس الوزراء في عهد فيصل ورئيسا للهيئة العليا للتخطيط والاستثمار)، مع مجموعته من المستشارين – كان مشروعه هو انشاء دولة الرفاهية: زيادة الإنفاق الى حده الأعلى، تقديم بنية تحتية نموذجية (لطالما ضرب بها المثل في جودتها ومعدلات انجازها الزمنية والمالية الى منتصف الثمانينات)، تقديم خدمات عامة مجانية للمواطنين، وتوفير وظائف حكومية فورية جاهزة – اضافة الى مبادرته اللاحقة في تنويع مصادر الدخل عبر المدن الصناعية النموذجية التي شُيّدت في ينبع والجبيل.

ومن اجل تحقيق اهداف خطته الطموحة لدولة الرفاهية، خلق فهد اجهزة جديدة في الحكومة منذ عام 1975: فصعدت ست وزارات جديدة (الصناعة والكهرباء، الاشغال العامة والاسكان، التعليم العالي، البرق والبريد والهاتف، الشئون البلدية والقروية، والتخطيط) – كما اُسست او دُعمت صناديق التنمية في ذات العام: التنمية العقارية، التنمية الزراعية، والتنمية الصناعية.

وعلى خلاف خطة التنمية الخمسية الاولى (من 1970 الى 1974) التي لم تعدو عن كونها مسودة اهداف عامة، قام فهد بالتعاون مع مجموعته من المستشارين والوزراء ووكلاء الوزارة الشبان، للظفر بأصلب اداء اقتصادي مع الخطة الثانية (من 1975 الى 1980).. التي رُصد لها ميزانية خمسية تفوق الخطة الاولى تسعة اضعاف (حوالي نصف ترليون ريال)، فارتفع عدد موظفي القطاع الحكومي المدني (دون العسكري) من 97 الف في 1970 الى 175 في عام 1980، ومنها الى 344 الف موظف في عام 1988 اضافة الى آلاف من المستشارين الذين كانت تتنزل لهم رواتب باهظة شهرياً (هيرتوغ، 85).

وعلى خلاف مركزية فيصل وسياساته المالية التقشفية، ولتسريع وتيرة الانجاز وسرعة تحقيق معالم مشروعه في دولة الرفاهية، كان فهد يمنح الوزارات الخدمية المزيد من الصلاحيات خارج الاطار المؤسساتي، بآلية ترتبط بشخصه مباشرة تتجاوز كل الاجراءات البيروقراطية – في 1975 خصص عشرة بالمائة من مجموع مخصصات الخطة الخمسية الثانية (حوالي 53 مليار ريال) لوزارة الشئون البلدية والقروية تحت ادارة الامير ماجد للحصول على نتائج فورية في تنمية المُدن، وفي ذات العام وجّه فهد الامير متعب في وزارة الاسكان بانشاء مائة ألف وحدة سكنية مع كثير من الاستثنائات ازاء قيود الاجراءات البيروقراطية، ومنح المهندس محمد سعيد فارسي صلاحيات كبرى لانجاز مشاريع البنية التحتية بجدة، ناهيك عن المثال الابرز، الرئاسة العامة لرعاية الشباب، التي مُنحت موازنة مستقلة عام 1974، وكانت تنفقها بسخاء هائل وخارج سلطات او رقابة وزارة المالية. (قفزت ميزانية رعاية الشباب من 143 مليون ريال في عام 1975 الى 3 مليار مطلع الثمانينات).

وسُلم فايز بدر ادارة الموانئ في ظروف درامية، برتبة وزير، وبصلاحيات فوق-بيروقراطية، من اجل ان يعيد ميناء جدة الى حالة الاستخدام الطبيعي وينظفه من كل العوائق اللوجستية التي كانت قد شلّت مفاصله وعطلت من وظائفه – نجح بدر في مهمته في ستة أشهر فقط، وكشفت تجربته عن نموذج في التنظيم والادارة وسرعة الانجاز، بل ان الأسس التي وضعها، سهلت من خصخصة المرفق فيما بعد في اجراءات قياسية.

وتركت سنوات الطفرة (1970-1982) بصمتها واضحة على التنمية الوطنية، اذ اكملت الحكومة عقد مشاريع البنية التحتية والفوقية في اوقات قياسية.. ووثبت وثبات هائلة في مجالات انتاج الكهرباء والمياه المحلاة وبناء الطرق، وحتى التعليم والصحة.. يعود الفضل في ذلك الى حد كبير الى الاشراف المباشر من الملك فيصل، والأمير فهد.

ولكن وبسبب تركيبة السلطة (المحميات الوزارية)، والتدفق المفاجئ للموارد المالية الضخمة على الوزارات والأجهزة (قُدرت الموازنة من نسبة الدخل القومي للتسليح في وزارة الدفاع في الثمانينات بعشرة اضعاف مثيلاتها في دولة عضو في الناتو )، تغوّلت صور الانعزالية في الوزارات والأجهزة (خصوصاً السيادية والحساسة) حتى باتت كل واحدة منها تعمل في معزل ووفق قوانين شبه-خاصة. (رصد تقرير معهد الادارة العامة انه في في تلك الفترة كانت لوزارة الدفاع وحدها ست موازنات مختلفة ومُتضاربة.. واستطاعت وزارة الداخلية ان تعفي نفسها من الخضوع لانظمة الخدمة المدنية في التوظيف.. وانتزعت كل الوزارات والاجهزة السيادية حصتها من مشاريع الاسكان والصحة الخاصة بها وخارج الوزارتين المختصتين).

وخارج اطار المحميات السيادية، حافظ (السيستم) على مركزية نسبية ملحوظة، يعود ذلك الى جهود محمد أبا الخيل، في وزارة المالية، الذي حافظ على امتداد سياسات الملك فيصل. ومنذ صدور نظام تأمين مشتروات الحكومة وتنفيذ مشروعاتها وأعمالها في عام 1977 من قبل لجنة وزارية وباشراف من وزير المالية أبا الخيل، ازداد نفوذ وزارة المالية، لكن مركزيتها تلك اقتصرت على مجال تخصيص الاعتمادات المالية لمشاريع التنمية، وبقيت بعيدة وعاجزة عن تعميم اي تنسيق او تضافر بين انظمة وصلاحيات الوزارات المتفرقة.

ولم تتقاطع سلطات المالية مع سلطات الوزارات السيادية او المحاكم، رغم محاولات أبا الخيل لاختراق عوالمها.

مع ازدياد الهاجس الرقابي، قام أبا الخيل في عام 1978 باصدار تعميم صارم يشمل جميع الوزارات والأجهزة، تحدها من توقيع اي عقود مشتريات تتجاوز المائة مليون ريال دون أخذ موافقة وزارة المالية – ولكن تفسير الوزارات السيادية، بحسب ستيفن هيرتوغ، لنظام المائة مليون ريال تراوح بين ايجاد ثغرات في التعميم الجديد والتحايل عليه مثل تقسيم العقود على عدة انصبة – او تجاهل تعميم وزارة المالية أصالة كما كان في ردة فعل الحرس الوطني ووزارة الدفاع حينها (هيرتوغ، 91).

تسبب تعالي المحميّات على الرقابة من تورم سلوكها الانعزالي وفي توسيع البون بين قيادات الوزارات وانعزال اجهزتها عن بعضها البعض، ما ادى بالتالي لاضعاف آلية اصدار القرار وتوهين آليات التنفيذ.

وازداد التنافس المحموم حتى بين الوزراء خارج اطار المحميات الكبرى.. فاتخذ كل منهم مرجعاً خاصاً به في تراتبية السلطة او لجأ الى احد رؤوس تلك المحميات – وفي أواخر عهد الملك فيصل، تم تسجيل عدة خلافات شخصية وادارية بين احمد زكي يماني ومحمد أبا الخيل وهشام ناظر (هيرتوغ، 95). وعانى المسؤولون في صندوق التنمية الصناعي من الحصول على اي معلومات عن المشاريع المستقبلية من وزارة الصناعة والكهرباء لاشتداد التنافس.

لقد رسخّت سياسات عهد فهد من هفوات سياسات الستينات.. بل لقد منحتها مزيد من الشرعية والدمغة المؤسساتية العصية على التغيير.

ودائماً نظرت القيادة الى التوظيف في القطاع العام كوسيلة لتوزيع الثورة والاستقطاب (cooptation). ومنذ صدور نظام الموظفين في عام 1971 رُفعت الرواتب اكثر من مرة لاستيعاب كفائات متميزة في القطاع الحكومي. وبالرغم من ان النظام، الذي طال انتظاره، كان حداثياً، واستفاد منه المتعلمين في الخارج وشباب الطبقة المتوسطة، لكنه ايضا كان وسيلة لضم كثير من متواضعي التعليم والقدرات لاسباب ريعية، وسجلت احصائية لعام 1975 وجود موظفين حكوميين أُميين في الوكالة الاجتماعية لامست الثلث من اجمالي الموظفين بالوكالة.

وتولت الدولة دعم استهلاك المواطنين للكهرباء والبنزين والمياه وحتى الغذاء، ونظّمت امتياز الضمان الاجتماعي الذي بات يغطي، حسب أرقام الدولة، اكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون مستفيد مع عام 1984. كانت كل هذه الامتيازات ترسخ من فكرة الاقتصاد الريعي وتُترجم عمليا وحسابياً مشروع فهد في دولة الرفاه.

 كانت معالم الاقتصاد الريعي قد اكتملت واُبتذلت مفاهميها حتى تكاد تكون قد وصلت الى مستوياتها القياسية، وهي حملت معها كل عيوبها وتشوّهاتها التي ستبدأ في الانفجار العكسي مع انهيار عائدات النفط في منتصف الثمانينات.

وتغوّلت روح الممانعة لأي تغيير داخل الوزارات السيادية التي -في حالات كثيرة -استخدمت سلطاتها المتغولة والمتداخلة لإحباط اي مبادرات اصلاح للجهاز البيروقراطي، بله، اي اصلاح للفلسفة السياسية-الاقتصادية، اما بحق الفيتو او بالقتل البطئ والتمييع للقرارات العليا. كما تضخم الجهاز البيروقراطي ووصل الى حدود معيقة جداً، وصعدت طبقة الزبائنية التي تنشأ في اي اقتصاد ريعي وتستحوذ على اغلب مشاريع الحكومة، وباتت الارقام المالية للموازنة تكشف عن عجز لأول مرة مع عام 1982-1983.

وتم توريث السلوك الاستئثاري كمنظومة قيم في الجهاز البيروقراطي. فرفضت وزارة المالية التخلي عن سيطرتها على البنك الزراعي لوزارة الزراعة.. ورفضت وزارة الدفاع منح الطيران لوزارة النقل.. وبقيت الجمارك تحت وصاية وزارة المالية.. وتوزعت سياسات المياه على كل من وزارة الداخلية ووزارة التخطيط ومؤسسة تحلية المياه ووزارة الزراعة لان كل جهة رفضت التخلي عن حصتها من السيطرة.. الخ.

ورصدت ثمان جهات وزارية على الاقل تتناول ملف الصحة وانشاء المستشفيات (وهي الى جانب الصحة: التعليم، التعليم العالي، العمل والشئون الاجتماعية، الحج والاوقاف، الداخلية، الدفاع والحرس الوطني): يقول هيرتوغ، في آخر السبعينات تسببت تلك الازدواجية البيروقراطية وتشبث كل جهة بنصيبها من السلطة الصحيّة، في فائض سريري في الرياض، قابله نقص ذريع في المناطق الاخرى (هيرتوغ، 98)

كما حدّ السلوك الانعزالي للوزارات من اي تنسيق للقرار على المستوى المحلي في المناطق بين الامانات التي تتبع وزارة الشئون البلدية والقروية وبين الامارات التي تتبع وزارة الداخلية. وتُركت الأمور لصاحب الشخصية الأقوى، والاقرب الى صانع القرار لحسمها لصالح جهته، وفي جدة، اُعتبر محمد سعيد فارسي، رئيس بلديتها، كحاكم غير متوج على المدينة، لفرط مواهبه، ولاتصاله المباشر مع فهد.

وفقدت مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) -التي تعد نموذجا راقيا في الادارة الحكومية- هيبتها لأنها كانت لا تملك اي سلطة على المحاكم او وزارة الداخلية لتنفيذ العقوبات التي كانت تقرّها في الفصل بين نزاعات البنوك. كما تورطت ساما في معارك جانبية مع وزارة التجارة لاسباب شخصية بين القيادات.

واقتنصت أرامكو، التي تحولت رسمياً الى شركة محلية خالصة مع عام 1988، استقلاليتها التامة وبحماية غير مشروطة من الملك.

وهكذا كلما كانت الموازنة تتضخم، كانت الاجهزة والكيانات البيروقراطية تتداخل في صلاحيات الانظمة وتتشابك في آليات التنفيذ، او يزداد سلوكها الانعزالي، حتى بات الافتقار الى التنسيق الوزاري هو الاصل وايقونة الخلل الاداري طيلة عقد الثمانينات الميلادية.

تُفيد المصادر ان الحكومة كانت واعية بتلك الاشكالية لكنها وقفت يائسة من اتخاذ اي قرارات تصحيحية.

واجه فهد، الامتحان الأصعب لمشروعه، مع بداية تسجيل الموازنة لعجز في عام 1983.. وعاجزاً حاولت النخبة الاقتصادية المحيطة به تمرير حزمة اصلاحات تقشفية او ضريبية، لكن الملك فهد سجّل تردده.

ومع ثبوت عجز الدولة في موازنات لاحقة، حاولت الحكومة تقليص الامتيازات بشكل طفيف وتدريجي. في عام 1984 تم البدء في اضافة تعرفة على استهلاك الكهرباء، لكن الملك فهد اعادها الى اسعارها المدعومة السابقة، والاقل من تكلفة الانتاج.

وطرحت الحكومة نظام لضريبة الدخل على العمالة الأجنبية في عام 1988، ولكنها عادت وسحبته بعد يومين فقط من البدء في تنفيذه، بعد ضغط من القطاع الخاص.

كان تمرير اي اصلاح ضريبي باكر، كفيل بزعزعة بعض يقينيات فلسفة الريع، لكن الملك فهد، المعروف بسخائه، كان يتعامل مع المسألة وكأنه قد طُعن في كبريائه. وبدلاً من قطع الامتيازات على المواطنين او النخب في المحميات، تم ايقاف الانفاق على المشاريع الجديدة كلياً، مما سيصيب النمو الاقتصادي -لاحقاً- في مقتل!

وكان من تشوهات النظام الريعي، تقويضه لبنية المجتمع المدني والكيانات الأهلية القائمة. ومنعه لمسار النمو الطبيعي لقيام اي نقابات عمالية او احزاب سياسية او روابط فعّالة. وبعد ان انطلقت اغلب المؤسسات والشركات العامة والصحف والجمعيات الخيرية والأندية الأدبية والرياضية على أسس أهلية، رُصد في عام 1971، سبع عشر مؤسسة مجتمع مدني مُرخصة فقط، تصل موازناتها مجتمعة الى 1.5 مليون ريال فقط، بأعضاء نصفهم موظفين في الحكومة!

بعد ان رسخ الملك فيصل سلطاته.. قام بايقاف انتخابات المجالس البلدية (انطلقت منذ 1939)، وألغى المِلكيات الفردية للصحف (توقف في 1963) وعطّل الحياة النيابية التي كانت في اوج نشاطها وعطائها في اصدار التشريعات (انطلقت منذ 1926)، حيث تُرك مجلس الشورى مهمشاً إلا من مبنى متواضع في مكة وبلا تعيينات استلحاقية ليواجه مصيره بالضمور الطبيعي، حتى لقد قضى اعضاؤه بالتعاقب وكان اخرهم -ولعل اصدقائي من الشيوخ يصوبوني- السيّد هاشم يوسف زواوي.

وقبل اصابته بجلطة دماغية اقعدته، ومع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تلت حرب الخليج، قام الملك فهد باتخاذ قرارات لافتة، وإن شكلية، في طريق اصلاح شكل السلطة.. وهي القرارات الشهيرة: اعادة مجلس الشورى (كسلطة استشارية لا تشريعية بعد) (1992)، واصدار نظام المناطق الثلاث عشر (1992)، واعادة طرح نظام مجلس الوزراء (1993) – ولشكليتها، بقيت تلك الاصلاحات ضعيفة التأثير، ولم تتطور لتؤدي الى المناط بها في تقليص المركزية الادارية او مأسسة اتخاذ القرار او توحيد أهداف السلطة التنفيذية، او اضافة اي طابع رقابي يقنن التشرذم الاداري وحالة الزبائنية الاقتصادية. بقي شكل السلطة اذاً على ما هو عليه منذ الستينات، دون ان يمسه اي تحديث جوهري: شكل وزاري حقائبي بانفراد وانعزال للمحميات. لم تحمل القرارات أي قطيعة مع ارث وذهنية الدولة الريعية. وظل شكل السلطة على حقبته الثالثة كما هو منذ 1962.

لكن المشروع الذي سيأتي به ولي العهد عبدالله سيكون اكثر وعداً. فماذا حدث؟

يمكن مجازاً ان نقول ان مشروع الملك عبدالله، في اصله هو التفكيك -المتأني- لتركة الستينات الثقيلة: الانقلاب على مُحددات الاقتصاد الريعي، والقطع مع موروث السلوكيات التي رافقتها منذ الستينات وتغلغلت على مستوى ذهنية المراتب العليا بالجهاز البيروقراطي.

فكك عبدالله، ولا يزال، من السلوك الاستئثاري في الوزارات السيادية.. ورشّد السلوك الزبائني خصوصاً في سنوات “ربط الحزام”.. وطرح حزمة اصلاحات اقتصادية تشريعية.

لقد تدخل بمشرط جراحي في اكثر من مناسبة لتفكيك ودمج والغاء الفائض من الكيان البيروقراطي، وبما يحد من تغول السلطات في المحميات. فكك تركة بترومين بعد عقدين من الترنح والاخفاق، دمج التعليم العام بكافة فروعه وقطاعاته في وزارة التعليم، فكك التكتل الممانع في مجلس القضاء الأعلى واعاد هيكلة مرافقه ومحاكمه المتدرجة، فصل قطاع الطيران عن الدفاع، رتب تشريعات وزارة العمل وووضب سوق القوى العاملة، والغى عدد من المجالس العليا، الخ..

كما حمى عبدالله الدولة من كارثة الافلاس المحدقة عام 1998 بعدما هوت اسعار النفط الى 10 دولارات للبرميل، وارتفع الدين العام الى %100 من اجمالي الدخل القومي. وفي ديسمبر 1998 توجه عبدالله بخطابه الى الشعب طالبا منهم ان يشدوا الأحزمة، وقام بترشيد انفاقات اسرة آل سعود.

لقد رافقت سنوات العجز السبع عشر (1983-2000) فجوة تشريعية سحيقة، اذ لم يصدر طيلة تلك الفترة اي تشريع او نظام جوهري، باستثناء قرارات الانظمة الاربع الشهيرة.

ومنذ مطلع العام 1999 مرر ولي العهد عبدالله عدة مراسيم ملكية وقرارات وزارية تهدف الى هيكلة الاقتصاد السعودي واصلاح مناخ الاستثمار .. فصدرت أنظمة الشركات، الوكالات التجارية، الاسماء التجارية، الاستثمار الاجنبي، الرهن التجاري، العلامات التجارية، مكافحة الاغراق، تنظيم هيئة المدن الصناعية ومدن التقنية  – واعيد تنظيم سوق الاسهم تحت هيئة اعتبارية لسوق المال (2003)، وطُرح نظام العمل (2005)، ونظام المشتريات والمنافسات الحكومية (2006)، وقرارات تنظيم عمل المرأة، وقرارات تحفيز السعودة في القطاع الخاص، ولوائح الاستقدام.. الخ

كان في تسريع تمرير تشريعات اصلاح مناخ الاستثمار، اعتراف ضمني بتضخم الجهاز البيروقراطي، وتجاوز الحكومة لفلسفة التوزيع الريعية الكلاسيكية في ضرورة امتصاص البطالة عبر القطاع العام. يقول هيرتوع ان اصلاحات الملك عبدالله الاقتصادية (منذ 1999) صبت في تلقف القطاع الخاص أعباء التنمية وخلق الوظائف. (هيرتوغ، 141)

لكن حتى تلك الانظمة اما خرجت بمخاض عسير، او تم احبطاها (مثل نظام الاستثمار الأجنبي في قطاع الغاز) او تم ابطائها من تيار الممانعة حد انتزاع جوهرها (المدن الاقتصادية). وفي ذات الفترة ايضا تزايد الحديث عن أوامر ملكية تصدر، ولا تُنفذ!

يعلق هيرتوغ: “رغم حلول انظمة جديدة كلياً، ظلّت البيروقراطيا عصية على التغيير الجوهري، وبقيت متمسكة بموروث الستينات والسبعينات في اساليب العمل والبناء” (هيرتوغ، 248). رد ذلك هو بقاء شكل السلطة مرهوناً بتركيبة “المحميّات”، وعدم تكامل الادوات التنفيذية بمجلس الوزراء.

واصطدمت جهود غازي القصيبي في هيكلة سوق العمل وتوضيب متعلقاته تحت قبة وزارة العمل ومحاولاته لالغاء الحالة الاقطاعية السائدة من توزيع تأشيرات العمالة والمتاجرة بها، بموروث الممانعة الشرس. أما خُطط هيئة الاستثمار الطموحة لتحفيز الاستثمار الاجنبي “ضاعت بين تجاذبات المحميات السيادية” كما في تعبير هيرتوغ (هيرتوغ، 143). وهو ايضا ذات العامل الذي عطل الانضمام لمنظمة التجارة لسنوات، وجعل مفاوضات الاتفاقية من طبيعة ماراثونية مضنية.

لكن وتيرة الاصلاح الاقتصادي عادت اخيراً على موجة التسارع.. بل ان العام المنصرم وحده (2012) شهد طفرة هائلة في عدد وطبيعة الأنظمة الصادرة، مثل: نظام مراقبة شركات التمويل، ونظام التنفيذ، ونظام التمويل العقاري، ونظام الايجار التمويلي، نظام الرهن العقاري، نظام مكافحة غسيل الاموال، ونظام التحكيم – حد ان ما صدر من انظمة في العام الفائت وحده يتجاوز في جوهره (وعدده) مجموع الانظمة التي صدرت في سنوات العجز المالي مُجتمعة!

رد ذلك تنامي ضغط الشارع والرأى العام ازاء ما بات يلمسه واقعاً من تعثر للمشاريع، وغلاء للمعيشة واستفحال للبطالة، او اقتحام مفاجئ لكوارث طبيعية مثل كارثة سيول جدة، او مؤثرات جيو-سياسية مثل الربيع العربي.. ولربما ساعد ايضا رحيل اغلب الجيل القديم المؤسس والوارث لكيانات المحميات منذ الستينات.

لكنا نلمس في سياسات الملك عبدالله لجوءه ايضا الى اسلوب “الجزر المنعزلة” – وعلى غرار الهيئة العليا لتطوير الرياض، تم استثناء انشاءات المشاعر المقدسة من انظمة المالية في الحساب المعروف برقم 888، وتم الاستعانة بأرامكو لادارة مشاريع تشييد جامعة كاوست العملاقة، شبكة تصريف مياه جدة، وإستاد الملك عبدالله في جدة، كما تم اضافة عدد من الجهات شبه القضائية خارج جسد المحاكم، خصوصا في هيئة سوق المال، ووزارة الاعلام، الخ.

وبقي اسلوب المخاطبة على المستوى الوزاري رأسياً (يرفع الى الملك)، وموازياً مع باقي الوزارات، وليس متقاطعاً او متضافراً بديناميكية أفقية او دائرية. وتم تسجيل تقييم منخفض لكفائة الجهاز البيروقراطي في مؤشر الاداء الحكومي (انظر الجرافكس المرفق).

في مؤشر الاداء الحكومي (government effectiveness index) تحتل السعودية تصنيف سالب (2‪.‬5 هو افضل اداء حوكمة، صفر هو المعدل، وسالب 2‪.‬5 هو اردأ اداء حوكمة).. يقيس مؤشر الاداء الحكومي، جودة خدمات القطاع العام، وفعالية وجودة الجهاز البيروقراطي، وقدرات وانتاجية موظفي القطاع العام، واستقلاليتهم عن الضغوط السياسية. المؤشر يصف قدرة وكفائة اي حكومة على تقديم وتوزيع خدماتها العامة للجماهير، ومدى فعاليتها في اصدار التشريعات والسياسات. علماً بأن بقية دول الخليج الست تحمل تصنيفا ايجابيا متفاوتا، وتتقدمنا في التصنيف. (مصدر الجرافكس: مورجان ستانلي)

في مؤشر الاداء الحكومي (government effectiveness index) تحتل السعودية تصنيف سالب (2‪.‬5 هو افضل اداء حوكمة، صفر هو المعدل، وسالب 2‪.‬5 هو اردأ اداء حوكمة).. يقيس مؤشر الاداء الحكومي، جودة خدمات القطاع العام، وفعالية وجودة الجهاز البيروقراطي، وقدرات وانتاجية موظفي القطاع العام، واستقلاليتهم عن الضغوط السياسية. المؤشر يصف قدرة وكفائة اي حكومة على تقديم وتوزيع خدماتها العامة للجماهير، ومدى فعاليتها في اصدار التشريعات والسياسات. علماً بأن بقية دول الخليج الست تحمل تصنيفا ايجابيا متفاوتا، وتتقدمنا في التصنيف. (مصدر الجرافكس: مورجان ستانلي)

ومع تعافي ايرادات الدولة، بعد الارتفاع الخارق لأسعار النفط، اعاد الملك عبدالله دوران عجلة التنمية بعد ان عُلّقت منذ منتصف الثمانينات. ووائم وزير المالية ابراهيم العساف ببراعة بين سياسة الانفاق السخية وتقديم حزم الانعاش، وبين تقليص الدين العام الذي وصل مع موازنة العام الحالي الى 3.6% من اجمالي الناتج الوطني. واذا استثنينا مركزية المالية وضعف الرقابة عليها (وهو استمرار للسلوك الانعزالي/الريعي)، والمنعطف المباغت الذي ترافق مع الربيع العربي وتم معالجته بذهنية ريعية قاسية (صرف رواتب اضافية واعانات واعفائات من قروض وتثبيت عاملين اضافيين بالقطاع العام، الخ).. كان مشروع الملك عبدالله، عكس فهد او تصحيحاً له، يسير نحو التحوّل من كفائة التوزيع (دولة الرفاه) الى كفائة التنظيم (دولة المؤسسات).

لكن هذا التحدي بات يعوز الضمانات الأخيرة ليجري الاعلان عن انجازه الكامل، وصورته، التحول الجذري الى شكل سلطة حديث يدشن الحقبة الرابعة للحُكم: اي حكومة ما بعد الدولة الريعية.

لكن كيف ندخل عهد دولة ما بعد الريع ؟ وكيف يتحول شكل السلطة الى حقبته الرابعة ؟

هذه خارطة مُقترحة..

1. تعيين الملك لوزير أول – بكون بمثابة رئيس الحكومة، الذي يقودها بشكل دوري (كل اربع اعوام)، ويشكلها وفق اهداف و برامج واضحة ومعلنة.. تقضي على حالة التشرذم البيروقراطي، وتعمل على تناغم الأنظمة بحسب فلسفة تتوسل الاصلاح الجذري الشامل (wholesale adminitrive reform)، وتحلق بنتائج الفعالية الحكومية (government effectiveness) الى آفاق تنافسية عُليا.

2. منح المجلس الاقتصادي الأعلى سلطة التنسيق بين وزارات التجارة والصناعة، والاقتصاد والتخطيط، والمالية، ومؤسسة النقد العربي السعودي، ووزارة الداخلية، والهيئة العامة للاستثمار – في مجال وحدة السياسات الاقتصادية، وتضافر الأنظمة، والتعاون التنفيذي، وتقليص أزمنة الانجاز. آي يتحول من مجلس مُستشارين، الى جهاز تنفيذي فاعل (cross-cutting player) تماماً مثل الدور الذي كانت تلعبه وزارة التجارة الدولية والاقتصاد في الحكومة اليابانية.

3. تدشين الموجة الثانية من مجلس الشورى وانظمة المناطق والنظام الاساسي ونظام المؤسسات الصحافية الاهلية: بما يرفع ادائها الرقابي، ويخفض المركزية التي تمارس ضدها- واعادة اشراك القطاعات المجتمعية المدنية في العملية السياسية.

4. تشكيل لجنة تنفيذية مشتركة بين مجلس الوزراء ومجلس الشورى لوضع خطة تفصيلية زمنية لتقديد الجسد البيروقراطي المترهل، وتشذيب ادارات الحكومة، واخراج الفائض من موظفي الدولة الى مسارات تقاعدية او وظيفية موازية وآمنة.

5. تقليص المركزية في المقاطعات الادارية، واعطاءها حد ادنى من الاستقلالية في الادارة والتشغيل واقرار الموازنات، مع تحفيز الجوانب الرقابية على كل ذلك. مركزية اقل، تعني تنافس محموم، وأضرار اقل في حالات اخفاق النظام.

عوداً على بدء نعيد طرح السؤال الاستفتاحي: هل يقطع الملك مع ارث الدولة الريعية، وينتقل بالسعودية الى عهد ما بعد الدولة الريعية (post-rentier state) ؟! هل يثب بشكل السلطة، ولأول مرة منذ عام 1962، الى الحقبة الرابعة؟! لقد انضجت سياسيات الملك عبدالله كل العوامل التمهيدية حتى باتت الفرصة مواتية اكثر من اي وقت مضى.

هوامش:

– جميع الاشارات الواردة في المقال للبروفيسور ستيفن هيرتوغ، يمكن مراجعتها بأرقام صفحاتها + الاستزادة التفصيلية حول تاريخ البيروقراطيا السعودية، من كتابه التالي:

Princes, Brokers, and Bureaucrats: oil and the state in Saudi Arabia

– اغلب الارقام تم تدقيقها ومقارنتها بالأرقام الرسمية لوزارة الاقتصاد والتخطيط، وبيانات وزارة المالية.

– كتاب هولدن وجونز هو: 

The House of Saud

– للاستزادة حول تاريخ الاقتصاد السياسي للسعودية يمكن ايضا مراجعة كتابيّ الباحثة سارا يزرائيلي:

The Making of Saudi Arabia: The Struggle Between King Sa’ud and Crown Prince Faysal, 1953-1962

Politics and Society in Saudi Arabia: The Crucial Years of Development, 1960-1982

 
هذا المنشور نشر في مٌباشرة للتدوين. حفظ الرابط الثابت.

12 Responses to قرارات الملك: هل يقطع عبدالله مع ارث الدولة الريعية؟!

  1. ibrahimhr كتب:

    ماشاء الله تبارك الله
    من القلائل الذين اجد الجديد المفيد الماتع كلما قرأت له،،

    حفظك الله وبلغك رضاه

  2. محمدسندي كتب:

    الاستاذ محمود…
    تحياتي فقد كفيت ووفيت بهذا التحليل الرائع والصادق والذي اتمني ان يقرأه كل مسؤول في مملكتنا الغالية.

  3. ثامر باعظيم كتب:

    مقال متميز يرفع الوعي ويوسع الأفق

    وليتك أضفت الى قائمة مقترحاتك تحرير الجامعات من سلطة التعليم العالي التي باتت مكبلة لأي إبداع علمي وثقافي واجتماعي، استقلالية الجامعات ماليًا سيجعل تأثيرها على المجتمع ذا اعتبارية وسيخلق أجواء تنافسية تصب في مصلحة العلم والثقافة والبحث العلمي، وجهة نظري ان الخطوة الأولى لإجراء اي إصلاح سياسي او اجتماعي او اقتصادي تبدأ من محاضن التعليم

    شكرًا لك على هذه المدونة وبارك الله لك ولمجتمعك في علمك

  4. تعليم البنات بدأ في العام 1380 هـ 1960 م خلال حكم الملك سعود . لماذا ينسب الجميع تعليم البنات لفيصل ؟

  5. Ashoor Ahmed كتب:

    أتفق مع الكثير مما طرحته، وفي اعتقادي أن البرنامج التلفزيوني “سعودي” كان يمثل تجلياً شاعرياً “للحلم” الذي كان يعيشه الملك فهد (رحمه الله) ودولة الرفاه التي يختال على عرشها بكل مثالية !.. ملاحظتي الأبرز هنا أن المقال وربما مصادره أيضاً لم تعطي الجانب السياسي حجمه في التأثير على المسيرة الاقتصادية للدولة، في اعتقادي أن “تثبيت الحكم” كان الحاكم الأعلى لجميع قرارات المرحلة السابقة، وكان هذا العنصر يعمل كأداة توازن وقياس دقيقة للمواءمة بين مايمكن ومالايمكن فعله!

  6. Hesham Alghamdi كتب:

    رائع جدا .. مقال متوازن وموثق .. الله يكثر من أمثالك .

    لعلها فرصة لأقترح عليك بما أنك تمتلك هذا النفس البحثي النادر في مجتمعنا مع الأسف، أن تقوم بتأسيس وحدة دراسات لعلها تكون باكورة مركز دراسات متخصص بالسعودية خصوصا في المجال السياسي والاقتصادي.

  7. طلال كتب:

    فرصة رائعة قراءة مثل هذا المقال، شكراً لجهدك أخي محمود.
    هل هناك أي أمل في دور فاعل لنقابات عمّالية تنشأ من الطبقات العاملة في السعودية التي هي معظمها من جيل الشباب الذين لاحظّ لهم في وراثة أسرة تجارية أو أسرة إقطاعية؟ هل استشرف المؤلف دوراً لنقابات عمالية قد تغيّر من وجه الدولة الريعية فيكون التغيير قادم من القاعدة للأعلى عبر حراك مدني ليس بفعل حاكم من الأعلى للأسفل.
    شكراً جزيلاً وواصل عطائك المميز.

  8. محمد الفتياني كتب:

    دائماً أخي محمود تملك طريقة جميلة في سرد الأحداث وتسلسلها دون المساس بالحقائق. أهنئك وأتمنى المزيد.

  9. Saad كتب:

    كلام جميل اخي محمود ، فتح لي نافذه جديده للرؤيه

  10. علي كتب:

    شكراً على المقالة استاذ محمود، عندي سؤال: نحن دولة تعتمد على مصدر رئيسي للدخل وهو النفط، وبالتالي نحن دولة ريعية بجدارة لان سلطة الحكومة تأتي من سلطتها على النفط. فكيف ستتخلص الحكومة من هذه السلطة لتصبح دولة (ما بعد ريعية) ولماذا ستفعل ذلك؟ وهل يعني التخلي عن نموذج الدولة الريعية الانهماك في بيع القطاع العام للقطاع الخاص؟ الناس تعاني الان من انعدام العدالة في توزيع الثروة، فهل سيعني ذلك التحول مزيداً من الضنك للناس ام سيعني عدالة في توزيع الثروة؟

أضف تعليق