المضواحي .. فارسٌ اخلص الى شغفه حتى الرحيل

في احدى صباحات ٢٠٠٩ طلبتنا جريدة الوطن للتصوير ارتهاناً لإخراج حديث ستصدر به الصحيفة ، يتوحد فيه صور بروفايلات كتاب الرأي لتظهر بأيدي متشابكة . حتى ان المرحوم غازي القصيبي كتب مقالا في الوطن يعبر فيه عن هوله من صور “الشواكيش” ، ويتندر من هيئاتنا المتشابهة المضحكة تحت عنوان : “الأسرار المحبوكة في الأيدي المشبوكة”  – ولعله في مقالته تلك كان يمارس إسقاطا اعمق من ظاهره اللوذعي الخفيف .

يومها استقبلني عمر المضواحي ، مساعد رئيس تحرير الوطن ، في مكتب جدة بالرويس .. هاشا باشا ، مرحبا مَرَحا كعادته .. وظل لساعة كاملة يغمرني بلطيف سؤاله ، ويؤنسني بأحاديثه وقفشاته وهمومه الصحافية – شغله الشاغل وشغفه الأبدي . قبل ان يرتب لي مقدمة الغترة ، لالتقاط الصورة المطلوبة . حيث كان ارتداء الغترة ، ولا يزال ، يشكل لي عقدة ، احاول جاهدا تجاوزها . كان يزفني بتحايله المرح الى قائمة “الشواكيش” .

كنت أزور مكتب جريدة الوطن بجدة بشكل دوري . وكان مكتب عمر المضواحي، او “السيّد” كما يحلو لمحبيه مناداته، هو المقصد ، والبيت ، والتكأة المعرفية .

في احدى الزيارات .. طلب مني السيد عمر ، بمرحه وسخريته اللاذعة ، ان ارافقه الى مكتب رئيس التحرير ، جمال خاشقجي ، لأشهد فصلا من فصول معضلة الصحافة السعودية الأبدي ؛ صراع التحرير والمال . يومها دخلنا على أبي صلاح ، الذي استقبلنا كعادته ، بسيجاره الكوبي الفاخر ، قاشع الرأس ، ليس على مكتبه اي ورقة او ملف او تحقيق تحت المتابعة .. يتصفح النت ، بهدوء بال ودون اغراق . وخاشقجي من مدرسة رئاسة التحرير التي لا تتغول في تفاصيل العمل الصحفي اليومي ودوشتها ، وتريد إنجاز العمل بشكل مؤسسي غير مركزي – كي يتسنى لرئيس التحرير التفرغ لمهام توسيع مصادر الصحيفة وتحالفاتها ، مع رسم رؤيتها .

دخل السيد المضواحي ، حاميا ، او يختلق الحمية ، فطبعه الرقيق المسالم يرفض الشدة – مشاكسا رئيسه ، خاشقجي ، عن ميزانية التحرير التي كان يجري اعدادها.. رافضا ان يكون لمدير المؤسسة ، حاتم مؤمنة آنذاك ، سلطة او سطوة تحديد او تقليص بنودها . كان عمر يشط ويقسو ، وجمال يبتسم ويحتوي .

أثار المضواحي ، نقطة كانت شغله الشاغل ، وهي اهتمام الصحيفة بالرأي على حساب التحرير . كان يرفض ان يأخذ كتاب رأي نجوم ، مكافئات تصل الى ثلاثين الف ريال شهريا ، على حساب تقليص ميزانية التحقيقات والاستطلاعات الصحفية ، والإقصار ماديا على كادر التحرير . كان يريد اعادة الاعتبار للصحفي مقابل كاتب الرأي . في نظره ذاك هو جوهر الصحافة .

كان خاشقجي يشكو من مساعده ، و المضواحي يشكو من رئيسه . الأول ينكر على الثاني عصبيته واعتراضه الدائم ومشاكساته الإدارية ، والثاني ينكر على الأول بروده وتنازلاته وبراغماتية المدمرة. والشهادة لله ان العلاقة بينهما وان كانت جدلية ساخنة ، الا انها كانت حميمية لا يخدشها اي ضغينة او أحقاد او دسائس . كان كلاهما شريفا ، ومتحضراً في خصومته.

هكذا كانت حياة المضواحي في ردهات الصحافة السعودية .. ملؤها الميلودراما ، معارضة السائد ، وحس المشاكسة والمناكفة والاثارة . كان يمسرحها ، بشططه ، بالتطرف في شغفه ، بحس نكتته الحاضر ، بضحكته المجلجلة . كل ما عنده ممسرح ، لا يعرف الرتابة ولا يخضع للتوقع . خصومه ، او اصحاب النظرة الواحدة ، لاموه على مسرحيته تلك وعلى بوهيميته الإدارية ، دون ان يعلموا ان تلك الديناميكية هي ما يمنح للصحافة نكهتها وروحها ويقيها من القوالب الجافة الرتيبة .

كانت ابرز محطات عمر المضواحي الصحافية ، في الشرق الأوسط ، وفي الوطن .. ورافق زمانهما الذهبي في المحليات ، بل و شارك في صناعته . تخصص لاحقا في قصص الحرمين وآثار الحجاز ، وكتب قصصا صحفية بلغة شاعرية وإيقاع روحاني ، ستظل خالدة لزمن غير يسير في ذاكرة الصحافة المحلية .

لكن ابرز مآثره كانت في تصديه للمسكوت عنه ، في استقصائيته ، وفي مجابهته للتيار السائد بشجاعة وقلب وأخلاق الفرسان .

قبل سفري لنييورك ، قبل ست أسابيع ، لمنتَجة فيلمي الروائي الأول ، التقيته على احد مقاهي التحلية معية صديقيه الحميمين محمد الساعد ومجدي وعدو . كان يحكي لي بعاطفة صادقة ، قصته في طلب لقاء الأمير سلطان بن سلمان ، للحديث عن مسجد وبئر الحديبية وآثارهما المهملة . والمماطلة التي واجهته ، ولم يواجهها سوى بالحلم والصبر والأناة .. والإلحاح ، والأخيرة هي اعلى خصال الصحافي الشاطر .

حينما تمت دعوته اخيراً للقاء رئيس هيئة السياحة والآثار في احد مؤتمرات التراث بالمدينة – والسرد للمضواحي – لبّى الدعوة ، لكن حرس البروتوكول صده عن دخول القاعة ، وحينما رَآه أمير المدينة فيصل بن سلمان بعد ذلك ، مُستبعدا، يجلس وحيدا في البهو الخارجي ، سأله عن عدم تواجده في الداخل – رفض عمر بتسامحه ، الإشارة الى هفوة حرس البروتوكول كي لا ينالهم شيء من توبيخ الأمير . اكتفى بأن يُرَد اعتباره الصحفي بتسهيل لقاء شقيقه لإنجاز رسالته . وكان له ما أراد .

رحم الله السيد عمر .. كان فارسا من زمان آخر . كان شريفا في مهنته ومقاصده ودوافعه . عاش غني النفس ، غير ضجِر . نافح عن شرف مهنته ، وعن شموخها ، وكان أبياً يرفض الابتذال والتملق . وقد توحد بشخصه وحياته في مهنته وفي تحقيقاته وقضاياه التي يكتبها ويتبناها .. حتى تكاد تشعر انه يكتبها بمداد روحه التي غمرتنا سنوات ، حتى فاضت عنا أخيرا الى بارئها . هكذا أخلص المضواحي لشغفه حتى الرحيل.

الإعلان
هذا المنشور نشر في مٌباشرة للتدوين. حفظ الرابط الثابت.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s