خور أُبحر – من النهر الكاذب الى اليوتوبيا المخطوفة

 “وفي عشيّ يوم الأحد ثانية أرسينا بمرسى يُعرف بأبحر، وهو على بعض يوم من جدة، وهو من أعجب المراسي وضعاً، وذلك أن خليجاً من البحر يدخل البر والبر مُطِيف به من كلتا حافتيه فتُرسي الجلاب منه في قرارةٍ مُكنّة هادئة. ”  – ابن جبير الأندلسي، رحالة القرن الميلادي الثاني عشر.

*
جدة وأهلها.. تتبدل مراتع فسحاتهم وشطوط سرحاتهم*، لكن هواهم نحو الترف وحلو الحياة ثابت.

واذا استثنينا طقس الخروج الى جزيرتيّ أبي سعد والواسطة.. كانت نزهة الأهالي البحرية تتجه شمالاً.. وتبتعد هاربة كلما لحقت بها حركة العمران.. من بحر الطين (أو الأربعين)، الى رأس قحّاز، الى غبّة عشرة، حتى ضاحية أبحر.

في بحر الطين حيث كان يجلس حمزة شحاتة مع صديقه أحمد قنديل على ربوة يهيمان وجداً بنسنسة الهواء البحري، ويقضيان الساعات في محاورات الأدب وآمال الشباب غير عابئين بموعد اغلاق باب البلدة الشمالي في الساعة الواحدة بالتوقيت الغروبي أو العربي.. في تلك التلال كانت تلتئم مجالس الوجهاء منذ نادي الأعيان الذي كتب عنه أمين الريحاني، الى أندية السمرة والشباب.. ثم الزحف شمالاً الى رأس قحّاز حيث ذلك المقهى الصغير المحشور في عشّة متداعيّة يخدم وحيداً عشرات المصطافين قبل ان تبنى في ذات الموقع سقالة توتشل التي استحالت بدورها متنفساً ومنتزهاً عاماً للأهالي. ثم الزحف مرة أخرى شمالاً الى غبّة عشرة.. حيث قصر الشربتلي المنيف، وحيث كان أهالي جدة، نساء ورجالاً، يغنون في فرحة:

غبّة عشرة يا روحي على الإثنين
نطرب ونغني ونمسك مفرق الدربين

والغبّ، في المفردة البحرية، هي عمق البحر السحيق. وموضعها اليوم أول حي الشاطئ من جهة الحوامات.

كان الخروج الى أبحر حينها مغامرة كبرى محفوفة بالمخاطر والأهوال التي لا يقدر عليها سوى من توفرت له الوسائل.

كان المنتزه الرسمي، للحفلات الخلوية الحكومية في جدة، ينعقد في ضاحية الكندرة، شرقيّ سور المدينة العتيق حيث مربعة السقاف المنيفة.. هرباً من هدير الميناء ورطوبة البحر وهوائه الثقيل . وفي العشرينات الميلادية حوّلها الشريف حسين غرباً الى سطح الباخرة “طويل” الراسية على مقربة من رصيف ميناء البنط، استعراضاً أميرياً، وترسيخاً لسيادته الوطنية .

لكن التاجر محمد عبدالله علي رضا، هو اول من جرأ -أهلياً- على ادارة بوصلتها شمالاً نحو ضاحية أبحر في الثلاثينات الميلادية. تبعه -رسمياً- قائم مقام جدة، ابراهيم بن معمّر الذي أقام مأدبة رسمية لفيصل.

 

ولأن اتجاه المدينة مثل مزاج أهلها لايكاد يستقر على عادة حتى ينقضها‫..‬ بدأت قوافل السيارات منذ الخمسينات تتجه في أيام خميسها‫..‬ ليس زحفاً‫..‬ بل وثباً‫ ‬نحو ضاحية أبحر‫..‬ حيث اليوتيوبا الضائعة‫..‬ يفترشون بالآلاف الشواطئ المفتوحة‫ المشمسة التي تتخللها ‬ظلال وارِفة طبيعية من تشكيلات الصخور‫.

كانت أبحر تبتعد عن جدة (البلدة القديمة) ثلاثون كيلومتراً شمالاً. وهي خور مائي يتصل بمسرب منخفض للبحر يتجه الى الشرق مرتبط بمجرى للأمطار ينحدر من وادي الكراع.

سمّيت أبحر في اوائل الخرائط البحرية بخليج شارلز – نسبة الى الكابتن شارلز نيولاند التي مخرت بعثته في 1769 المسافة بين المخا وجدة لوضع خارطة ملاحية جديدة للبحر الأحمر‫.‬. ونشرها في مارس 1772.

ولتكوينه الطبيعي، خاتل (أبحر) شارلزاً الذي اعتقد انه نهر جارٍ! كما خادع من قبله الرحالة الدانمركي نايبور الذي احتمى في تجويف مياه أبحر من عاصفة هادرة وظنه هو الآخر نهراً.. حتى لقد جرى على ألسنة كل رحّالة وربابنة ومغامري القرنين الثامن والتاسع عشر تسمية أبحر بالنهر الكاذب!

كان الطريق البّري الى أبحر وعر، ضيّق الخط، ملتوٍ، كأنما يرفض الاستقامة عنوة وتعبيراً عن موقف – أو كما لاحظ ذات مرّة أحمد قنديل: “كأنما كانت الاستقامة في سلوكها معرّة بين سواها..” . كان السيارات تترك مصنع الإسمنت (سوق حراء حالياً) كآخر نقطة حضرية، وتتوغل شمالاً في صحراء فسيحة قاحلة، يدفعها الهوى والمخيال المشحون نحو استئناس جنّتهم الضائعة.

“لو لم يوجد (أبحر) لكان علينا أن نخترعه”.. هكذا اعترفت ابنة بيروت، ليلى النعماني، المتأهلة من حسين علي رضا.. في تواريخ ذكرياتها عن أبحر منذ الخمسينات.

والحقيقة.. ان أبحر، هي اليوتوبيا التي أوجدتها طبقة جدة البرجوازية الناشئة مع اتساع المدينة .

كانت أبحر رئة البلدة، وقبلة البرجوازية ومسرح وجودهم الحر الفسيح .

وعلى طريقة عوامات وذهبيات النيل في القاهرة، وجراديغ دجلة في بغداد.. كانت كباين أبحر ملمحاً من ملامح الترف البرجوازي منذ الخمسينات.

كانت الكباين الشعبية -او أكشاك البحر- تتوزعها البَشكّ على صفحة ساحل أبحر بترتيب عشوائي متناثر.

فهي مجرى لقاءات العشّاق، ومواعدات المغرمين، ومعانقات الخارجين عن رتابة حياة المدينة وقوانينها الصلفة. ذلك العهد الذي خلّده شاعر الأغنية الجدّاوي صالح جلال، في اولى قصائده الغنائية التي كتبها في 1956 من ألحان وغناء طلال مداح:

أسمر سمير الروح ايش زعلك مني؟
لا تسيبني وتروح وقّف وعاتبني
خلّي هوانا يدوم لا تبتعِد عني
لاتنسى يا فتّان انك مواعدني
أو تنسى في (أبحر) انّك  معانقني
سيدي الزعل ممنوع

يذكر الراحل محمد صادق دياب.. قصة طريفة عن صديقهم الفولي، وهو مواطن من ظرفاء جدة مصاب بداء السمنة المفرطة، توفر على كابينة شعبية حوّلها الى مجلس طرب وأنس ومنادمة تلتئم آخر كل اسبوع. وفي احدى الليالي، كان الفنان محمد عبده، وهو في بداياته الفنية، يحيي الدان والمجارير في تلك القعدة المحفوفة، الى ان باغتهم الفولي، بتسليمه الروح من غير ميعاد، وسقوطه بين أيدهم جثّة هامدة. نفق الفولي، فترك الفنان والضيوف العود والعِدّة وخراطيم الشيشة فارين، من دهشتهم!

من نهر كاذب، وبيئة صحراوية قاحلة.. بدا وكأن البحر قد اتسع لجدة وأهلها، وبانت أبحر كلسان بحري كمن غمرته الحياة بهجة.

على ضفافه كان عبدالقدوس الأنصاري، مؤرخ المدينة، يوشّوش البحر عن مشاريعه التدوينية، ومسائله اللغوية.. حيث “كان البحر يصغي إليه” – كما لاحظ شكيب الأموي.

وعلى شواطئ أبحر، عبّرت البرجوازية الحديثة عن جنون موضاتها وصرعاتها. فيها كان اول ظهور لفتاة محليّة ترتدي لباس البحر من قطعتين بالكاد تستران محاسنها.. خطوة على طريق التحرر النسائي الذي استعلنته القاهرة في الستينات، واقتبسته منها دمشق وبغداد وبيروت وجدة.

تحرر من طرف.. وصعود للإستهلاك من طرف.

ابتدأ البناء في أبحر في الخمسينات على استحياء.. ومع نهاية العقد لم يكن هناك سوى شريط كباين واحد على أبحر الشمالية، وبضعة بيوت خاصة.

كانت أسعار البناء في أبحر مضاعفة.. وزرع شجرة واحدة يكلف اموالاً طائلة لانه يتطلب حمل مياهها من جدة عبر وايتات مُكلّفة وجلب التربة الحمراء من كيلو 4 في طريق مكة القديم وهي التربة الصالحة للزراعة.
Screen shot 2016-03-11 at 11.51.01 AM
لكن الجداويين تعاملوا مع حلمهم بمزيج من عناد وشغف .

شيّد شكيب الأموي اول شريط للكباين بأبحر – وزرع وحده مائة وخمسين شجرة، حفرها وسقاها بيده. فكانت “كباين شكيب”.. ولُقب صاحبها في دوائر جدة بلقب “ملك أبحر”.. ثم لحقه وسار على دربه البنوي والعطاس والأفندي والرحباني.

وفي عام 1964 طالب شكيب الأموي في مقاله بجريدة المدينة (12 مايو 1964) ان تُستغل أبحر كمنطقة شواطئ طيلة العام للسياحة الدولية، وطالب ببلاجات شعبية تبنى فيها كباين خشبية للعوائل المحلية.

أسس محمد الفيصل، مع مجموعة من أعيان جدة، نادي البحر الأحمر في جدة.. وفي 1965 نظّم النادي سباقاً ضخماً للسباحة بخور أبحر، كان الأكبر على مستوى المنطقة، وبمثابة مهرجان أهلي اشتركت فيه كل الفئات والأعمار.

FullSizeRender(7)

المصدر: تاريخ الحركة الرياضية لأمين ساعاتي

هكذا كانت أبحر تكشف عن ملمح شعبي صاعد، يقف خلفه رأي عام جارف.

‎ولا ينسى روّاد ذلك الزمن‫..‬ صندقة المعلم قارورة‫- الذي كان يقدم الكازوزة الباردة والمرطبات والتسالي ومسلتزمات السباحة لمصطافي أبحر.‬

‎خروجه الباكر الى تلك القطعة النائية جعل من العم قارورة من اوائل رواد الأعمال بتعبير زماننا‫.‬

لكن حسين هاشم العطاس هو من سيقتنص الريادة الكبرى. لقد كان أول من فكّر في منتصف الستينات الى استحداث بناء فندقي حديث وفاخر على الشاطئ البكْر.. مجهزّ بكامل مرافقه الترفيهية والخدماتية.

كانت كباين العطّاس، أولى البلاجات العصرية في أُبحر.. تعبير عن كوزمبوليتانية المدينة وآمالها البرجوازية واحتياجاتها الحديثة. وكانت منشأته تقترب في شكلها ومضمونها وروحها من نموذج فنادق البحر في عين المريسة وجونيه وجبيل.

ومع اقبال السكان.. انفسح عقد الكباين طيلة السبعينات الميلادية. افتتح فندق شاطئ أبحر (كازينو أبحر).. في عيد الأضحى من عام 1975.. مجهّزاً بـ 32 غرفة مزدوجة.. بلاج خاص ، ومطعم على البلاج ، وصالة سينما .

رافق ذلك التطور العمراني صعود أنماط استهلاكية موازية.. فكانت صالة عبدالباري صبان لليخوت، بشارع المطار بجوار مؤسسة النقد، تبيع على روّاد أبحر لنشات ويخوت ريفا الفاخرة.

ومنذ الثمانينات بزغت في أبحر جزر ترف صغيرة.. استحوذ اثرياء الطفرة وطبقته الزبائنية على واجهات بحرية شاسعة، يعبّرون بأسوارهم الإسمنتية العنيفة، عن سلوك انعزالي عدواني جديد.

ازدهرت أبحر بعد حرب الخليج.. عادت البرجوازية من جديد لتملأ جنباته في عطل نهاية الأسبوع، بطقوس حمامات الشمس، وحفلات السهر والطرب المسائية.. في عطالله، كباين الساحل، كباين العائلات، موج البحر، بيت البحر، مرسى البحر الأحمر، كباين شمس، وبلاج الرمال.

لكنه ازدهار مؤقت.

كانت جدة تدخل طوراً من البارنويا والتوجس والإنغلاق .. تزامن مع تغوّل قيم هوامير المال الإستهلاكية، التي انعكست على طابع أبحر وصورتها.

شيئاً فشيئاً التهمت تركيبة القوّة الصاعدة مساحة الفضاء العام المتبقية، وأزاحت الشاليهات التجارية شبه-العامة التي تضائلت، كمساحة وتعبير، ازاء كمباوندات الترف الخاصة وأندية المجتمع المسوّرة والمنغلقة على ديموغراف اما ثري/مخملي او أجنبي غربي.

لمّا ثبتت جغرافية المدينة، كان هواها قد ذبل!

ضاقت أبحر على جدة وعلى روّادها الذين صنعوا مجدها وحكايتها- أي برجوازية المدينة وطبقتها المتوسطة !

هكذا تتحوّل صورة الحياة في أبحر من نهر أجرد كاذب الى يوتوبيا الشعب الى جنة يتخطّفها الإحتكاريون.

خط زمني يشبه باقي تحوّلاتنا على كل الأصعدة.

‫–‬

* السرحة هي صيد الحوت (السمك) في سهرة ليلية بالبحر.

صور كباين العطاس 1968 من مقتنيات آيان باربر.

هذا المنشور نشر في مٌباشرة للتدوين وكلماته الدلالية , , , , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

13 Responses to خور أُبحر – من النهر الكاذب الى اليوتوبيا المخطوفة

  1. Ali Sheneamer كتب:

    بديع انت يا محمود عندما تكتب عن جدة ففي كتاباتك عنها وجد عاشق مكلوم.

  2. Ali Sheneamer كتب:

    قام بإعادة تدوين هذه على سرديات وأضاف التعليق:
    تدوينة عظيمة للمبدع محمود صباغ عن أبحر، نهر جدة الكاذب!

    • محمد كتب:

      الله يحميك و يحرسك أستاذ محمود ويبارك لك في والديك الكريمين اتحفنا دايما بنفحاتك ذات الاسلوب الراقي الجميل ق

      الجميل

  3. asim كتب:

    رائع

  4. علي يحيى الخزان كتب:

    الله يعطيك العافية اصبح لمدينة جدة ذاكرة وهي انت يا استاذ محمود استمر في ابداعاتك الدائمة وامتعنا بها

  5. طاهر كتب:

    احزن على جدة. فتاة حالمة, تمكنت منها الكوابيس.

  6. aalattas كتب:

    Phenomenal. Did not know that at all!

  7. حسام زواوي كتب:

    من الجميل ان تجد من يعشق المكان لجماله وأصالته وتاريخه العريق… و لكن الأجمل هو ان تجد من يمكن ان يجسد هذا العشق لكلمات تغازل المشاعر وتعيش القارئ زمن جميل مضى.
    تحياتي لك ولأناملك الرائعة.

  8. محمد يماني كتب:

    جيت علي الوتر الحساس قبل ٥٠ عام ايام وادي الكراع وقهوة كولا علي التبه المشرفه علي البحروايام التزلج علي البحر بالاسكاي زمن لن يعود حركت المواجع جزاك الله خير

  9. محمد ثابت كتب:

    مبدع يامحمود

  10. عبدالله المعيقل كتب:

    إعجابي بك أخي محمود لا حدود له مثقفا وطنيا من عملة نادرة …

  11. التنبيهات: Abdullah S ALhodaif

اترك رداً على محمد يماني إلغاء الرد