على زمن امارة أحمد بن مبارك بن زيد على مكة.. في شتاء عام 1721م تحديداً.. شبّ حريق هائل في بندر جدة المعمور، قضى لهيبه على ثلثي المدينة.
أزهق حريق جدة أرواح مائة وخمسين من الخلق، واحترقت معه توابيت (أضرحة) المشائخ المشاهير الذين كان يستغاث بهم، ويتقرّب بهم الى الله.. كما قضى على بعض المساجد القديمة. فيما سلمت بيوت البغايا تماماً من ألسنة اللهب، بعد ان طافت بها النيران شرقاً وغرباً، لكن لم تأكل منها، أو تلحق بها أي ضرر.
وقد وثّق الحادثة المؤرخ المكّي، رضي الدين بن محمد علي حيدر العاملي الشامي المكّي، وضمها الى كتابه (تنضيد العقود السنيّة بتمهيد الدولة الحسنيّة) الذي رتب فيه أحداث الحجاز حتى سنة 1749م. يقول رضي الدين حيدر، وهو المقرب من بلاط الشريف مبارك بن أحمد، ومن أخبار الدوائر الرسمية في عهده.. في فصل أحداث سنة 1133 للهجرة:

المصدر: تنضيد العقود السنيّة. ج2.
وقبل حريق جدة حذّر نفر من الصالحين، الى علامات ظاهرة بوقوع بلاء كبير في جدة “لإرتكاب أهلها المعاصي من الإشتهار بالربا، واحتكار الأقوات، ومنع الزكوات، والاشتغال بالغيبة والنميمة والحسد والبغي”. فوقع الإشتعال الهائل، انما في المساجد والأضرحة التي يقف عليها اولئك الصالحين، لا في دور البغايا!
وقد تزامن الحريق مع هبوب الرياح الموسمية، التي اسهمت في اتساع رقعة الحريق، طيلة أربعة أيام، وعطّلت من جهود اطفائه.
وتصعد السفن والأغربة الشراعية الضخمة القادمة من موانئ الهند، وفي مطلع كل عام ميلادي (شمسي)، من مضيق باب المندب متجهة الى ميناء جدة، فيما يعرف بموسم المركب الهندي. وتزدحم مرافق الميناء ووكالات البلدة وخاناتها بمناديب التجارة القادمين من السويس يمثلون تجار أسواق القاهرة والشام ومسقط واليمن والبصرة وفارس.
وفي سنوات المنافسة على دست الأمارة في مكة بين عشيرتي آل زيد وآل بركات.. بدأت شركة الهند الشرقية في البحث عن موانئ استراتيجية في البحر الأحمر حتى وقع إختيارها على بندر جدة. كتب جون اوفنغتون، من لندن سنة 1689 في كتابه (رحلة الى سورات) واصفاً ميناء جدة في ذلك العام:
”يزوره من عشرين الى خمسة وعشرين قارب شراعي كبير سنوياً. وهو ميناء يزدهر من التجارة الهندية والفارسية. ويصل اليه الحجاج. كما ان تجارة القهوة تزدهر فيه وهو مركز إعادة تصديرها من بلاد العرب الى تركيا وأوربا عبر السويس”.
جرّت تلك الترتيبات الجديدة، اضافة الى صعود القهوة كسلعة استراتيجية، الى اتساع تجارة جدة ونشاط ميناءها، حتى تدفقت الأموال والثروات وحركة البشر عليها بشكل غير مسبوق.
وقد تلى حريق جدة، سلسلة انشاءات عمرانية ضخمة قام بها والي جدة العثماني القوي جاوش باشي (المشير) باكير باشا، الذي ولّي جدة والحبشة ومشيخة الحرم منذ سنة 1722 م على عدة فترات. فأسس مسجد الامارة، او ما عُرف لاحقاً بمسجد (الباشا) الشهير بحارة الشام، لربما على انقاض مسجد قديم جاءت عليه نيران الحريق.
كمان اننا نعلم ان فتنة الأغوات بالمدينة المنورة قد حدثت في ذات زمن امارة الشريف مبارك، وبعد حريق جدة بأشهر معدودة، وهي الفتنة التي اغتيل فيها بجدة الشيخ عبدالكريم البرزنجي، واقيم له بها ضريحه الشهير بضريح الولي المظلوم، الذي في الأغلب أقيم على أنقاض ضريح كان يخص الشيخ عفيف الدين المظلوم، بعد ان تضرر من جراء الحريق. ولعل هذا يفسر الخلط التاريخي في نسبة الضريح، وربما يحسمه.
وكتاب (تنضيد العقود) هو احد ابرز مصادر تاريخ مكة في النصف الأول من القرن الميلادي الثامن عشر. وقد رتب فيه السيّد رضي الدين أحداث مكة من انتهاء تاريخ العصامي الشهير بسمط النجوم العوالي، اي سنة 1688م، الى السنة التي سبقت وفاته (رضي الدين)، أي في عام 1749م. ولا ينافسه في تسجيل تواريخ تلك الفترة سوى كتاب (إتحاف فضلاء الزمن) لإبن المحب الطبري المكّي (المتوفي عام 1760). وقد استعان رضي الدين في تسجيل أحداث ما قبل 1688 بتواريخ مؤرخي القرن الميلادي السابع عشر: باكثير الحضرمي في وسيلة المآل )توفي سنة 1638)، ومحمد بن أحمد عقيلة في لسان الزمان )رتب الحوادث الى سنة 1712)، والطبري في إتحاف فضلاء الزمن (المتوفي في 1760)، ناهيك عن عبدالملك العصامي المذكور في سمط النجوم العوالي الذي توقف في التسجيل عند أحداث 1688م.
وكتاب (تنضيد العقود) لم يُحقق إلا في من بضع سنين.. ما جعله يفوت مثلاً على صاحب تاريخ مكة أحمد السباعي.. الذي صدر كتابه خالياً من احداثه الهامّة، ومنها حادثة حريق جدة الكبير. لكن جيرالد دي غوري كان قد اعتمد عليه في كتابه الشهير (حكام مكة).. من مخطوطة وجدها في بغداد لدى يعقوب سركيس بخط أحمد بن عبدالرحمن المغربي الطرابلسي. اما النسخة التي بين أيدينا، فقد حققها مهدي الرجائي، الذي اعتمد فيها على نسخة كاملة مصورة من احدى مكتبات الهند، يعود تاريخ نسخها الى سنة 1848 استنسخها كاتبها للشريف عبدالله باشا بن عون.
والمؤلف السيّد رضي الدين من بيت علم وثقافة وأدب ومغامرة في مكة، يقال لهم: آل نجم الدين، وهي عائلة استعرقت في مكة منذ القرن الميلادي السابع عشر.. تنحدر أصولها من جبل عامل بلبنان، وبقيت في مكة على معتقدها الشيعي الاثني عشري.. وكانت مقربة من بلاط الشرافة، ومن مجالس العلم والرياسة. والده السيّد محمد بن علي حيدر، كتب عدة كتب خدم بها امراء مكة: مثل أحمد بن سعيد بن شبر، وشبير بن مبارك.. وله كتاب (ثواقب العلوم السنية في مناقب الفهوم الحسنية) الذي خدم به ناصر الحارث.. كما أرخ لولادة بركات بن شبير.. ولولادة مبارك بن شبير بن مبارك.. وأرّخ لولايتي أحمد بن غالب وسعيد بن سعد بن زيد. وكان مقربا من أعيان مكة مثل الشيخ عبدالله البصري، شيخ التجّار ورئيس عوائل مكة، ومن بعده ابنه سالم، وقاضي مكة ومفتيها الشيخ عبدالقادر بن أبي بكر المفتي الصديقي، وأديب عصره السيّد علي بن معصوم في الطائف.
أما عمّ المؤلف الشيخ علي بن نور الدين المكّي، من مواليد مكة عام 1651م، عمّر بها وتوفي عن التسعين.. له ابن أديب ورحالة هو عباس المكّي، له كتاب شهير في تاريخ مكة هو (نزهة الجليس). أما رضي الدين نفسه فكان من جلساء الأمراء مبارك بن أحمد، ومسعود بن سعيد وعلي بن سعيد، وكتابه (تنضيد العقود) وضعه للشريف محسن بن حسين بن زيد. وكان ذلك هو النمط السائد في التأليف.
وكان الشيعة المكيين في مكة في ذلك العهد يطلق عليهم جماعة: “أولاد العجم المتولدين بمكة” – وأشهرهم: ابناء محمد حيدر، وابناء اسماعيل بن مؤمن، وابناء السيّد عبدالمطلب الحسيني. وقد اورد الطبري في (إتحاف فضلاء الزمن) قصة جمع الشريف يحيى بن بركات لجماعة العجم في مكة قائلاً لهم: “أنتم سكّان بهذه البلدة، ونحن قائمين على حمايتها وحمايتكم، وأنتم أرفاضي، ليس لكم قدرة على القتال، فأفرضت عليكم ثلاثمائة بندق”.
تصحيح :
كتاب تنضيد العقود لم يكتب للشريف محسن بن حسين بن زيد المتوفي عام 1107هـ، والصحيح ان المؤلف كتبه للسيد محسن بن الحسين ابن عبدالله بن الحسن بن محمد ابونمي المتوفي عام 1147هـ بالشام، والمذكور هو والد السيد عون جد الأشراف آل عون ملوك الأردن .
وتنويه الى ان حريق جدة ذكر أيضا في كتاب اتحاف فضلاء الزمن الجزء الثالث وهذا الجزء لا زال مخطوطا ولم يطبع .
وأما مسجد الباشا فهو أقيم على أنقاض مسجد أو جامع الفرضة السلطانية الذي بناه نائب جدة الامير المملوكي حسين الكردي باني السور في بداية القرن العاشر الهجري .
وبالنسبة لاسم المظلوم فقد جاء في مخطوط كتاب ” تنزيل الرحمات على من مات ” للشيخ احمد القطان : ان السيد عبدالكريم البرزنجي اعدم خنقا او شنقا – يعني لم يكن قصاصا بالسيف – ” ودفن بالمظلوم ” ، أي ان اسم حارة المظلوم أقدم زمنا من حادثة اعدام السيد البرزنجي ، بالاضافة الى ما ورد عن اسم محلة او حارة المظلوم نسبة الى الشيخ عفيف الدين عبدالله المظلوم في كتاب تاريخ الخطيب ابن فرج المتوفي 1010هـ، وأيضا ذكر اسم المظلوم في ثلاث مرات في كتب اخرى أقدم من من كتاب ابن فرج ، وهناك مخطوطة أشارت الى الشيخ المظلوم قتل في صرة ملح ظنها القاتل خطأ انها صرة من الذهب فطارت رأسه تقول : مظلوم .. مظلوم !!
وايضا أشير الى تصحيح آخر ان العصامي توقف بالتسجيل في عام 1103هـ الموافق 1692م ، فكتاب تاريخ العصامي المطبوع اخره ناقص لأحداث ثلاث سنوات اخرى، وهناك مخطوطة كاملة لتاريخ العصامي .