كانت دار الأصفهاني بجدة اشهر الدور الوطنية في الطباعة والنشر منذ الخمسينات.. يقع مقرّها الفاخر على شارع المطار المركزي :
أسسها محمد حسين أصفهاني في عام 1954، وهو احد مواطني جدة الذي أدار في شبابه بسطة لبيع الصحف والمجلات المستوردة في ساحة البُنط أمام مسجد عكّاش القديم.. ثم اتسع حاله وافتتح مطابعه الفاخرة او دار الأصفهاني الشهيرة :

محمد حسين أصفهاني -يمين- مع عبدالله الفيصل وزير الداخلية -يسار- ومن خلفهما الشيخ عثمان باعثمان مدير عام العين العزيزية والوجيه الشيخ محمد الطويل.. في افتتاح دار الأصفهاني عام 1954
كانت دار الأصفهاني تطبع اهم الصحف السعودية حينها؛ جريدة البلاد.. وصحيفة عكاظ والرائد..ومجلة الأسبوع التجاري ومجلة المنهل.. وجميعها تصدر من جدة ومكة كما طبعت صحيفة الخليج العربي التي كانت تصدر في الخُبر :
وغير الطباعة اشتهرت دار الأصفهاني بأعمال الزنكوغراف وتصميم الإعلانات والعلامات التجارية.. هذا مثال :
كما عملت في مجال التغطيات الفوتوغرافية وتوزيع الصور كوكالات الأنباء على الصحف والجهات.. سواء صور شخصيات رسمية او أهلية او تغطية مناسبات عامة :
و دائماً ما كانت الصحف تبرز أدوار دار الأصفهاني على صفحاتها.. تقديراً لجهودها المتفانية في ظل الضغوط التي كانت تسير خلالها عملية النشر الصحافي آنذاك :
كان محمد حسين أصفهاني على ريادته الصحافية والإعلامية، رجل مجتمع من طراز عالٍ.. فهو عضو في لجان جدة الدائمة.. ورجل خير وإحسان.. وعضو مجلس ادارة في نادي الإتحاد.. بل وصاحب التوأمة بين اتحاد جدة والزمالك المصري. كانت داره الشخصية او مجالسه المنعقدة بدار الأصفهاني او أسفاره الى القاهرة لا تخلو من حضور لكبار رجال الأدب والصحافة والفن والمجتمع والرياضة .. لكن أبرز جوانب شخصيته على الاطلاق التي اشتهر بها في ذاكرة جدة الجمعيّة.. هي مقالبه الشهيرة التي يبدو انه لم يسلم منها أحد :
* * * * *
ومع توتر الأزمة بين عبدالناصر والسعودية خلفية حرب اليمن.. وقعت الأزمة الكبرى في الأسبوع الأول من يناير 1962 حينما اوعزت السفارة المصرية بجدة الى رعاياها العاملين بالمطابع الى الاضراب وايقاف العمل بشكل مفاجئ لإحداث شلل للإعلام السعودي من خلال حجب صُحفه الكبرى عن الصدور. لكن المحاولة رغم نجاحها في الإرباك بائت بالفشل المشهود كون جميع الصحف صدرت مُنتظمة من دون تأثر :
ولهذا الإنتظام قصة. فالأصفهاني شمّر عن سواعده، ووصل الليل بالنهار، وأخذ يعمل طيلة 16 ساعة يومياً.. جنّد فيها نفسه وشبّانه العاملين من الوطنيين، الذين كانوا لايزالون في مطلع حياتهم المهنيّة.. كان أبو المقالب الساخنة كمن لقّنه الزعيم عبدالناصر احد اكبر مقالب حياته !
يذكر الأستاذ عبدالله جفري، الذي كان يعمل في بداياته المهنية في صحيفة عكاظ، كيف كان الأصفهاني عشية اضراب العمال الفنيين المصريين، يقف على رأسه في مكتب عكاظ لإنهاء ماكيتات الصحيفة واخذها معه لتصدر في موعدها (راجع: مشواري على البلاط للجفري) :
واغتاظ النظام الناصري، فمررت آلته الدعائية أخباراً تفيد بأن السعودية احتجزت العمال المصريين وحبست عنهم حقوقهم. لكن الصحافة السعودية اظهرت كذب التلفيقات الناصرية.. واظهرت صحيفة الرائد لرئيس تحريرها عبدالفتاح أبومدين، على صدر صفحتها الأولى صوراً حيّة، لا تظهر فقط حرية تجوّل العمال الفنيين، بل واصرار مطابع الأصفهاني على تصفية حقوقهم واعطائهم هي كاملة :
ولم يقف الاضراب على مطابع جدة ومكة والمدينة.. فاوعزت السفارة المصرية لعمال مطابع الرياض الى الاضراب هم الآخرين في الأيام التي تلت :
مرّت الأزمة بسلام. خسر عبدالناصر الباقي من تعاطف الصحافة السعودية التي كانت كمن طُعن في شرفها الصحافي، وذهبت افتتاحيات الصحف المحلية الى ضرورة تطوير صناعة الطباعة وتدريب وتأهيل الوطنيين لسدّ الفراغ وانعدام الحاجة الى الغير :