الواقفون في المنتصف .. وأزمة العبور 

قراءة نقدية لفيلم “رقم هاتف قديم”

تعرض الحبيبة السابقة، على البطل الذي يطرق أعتاب دارها بعد طول غياب، رفقتها الى داخل شقتها، لكنه يتلعثم ويتردد ويتعرقل في أبابته وتفاسير حنينه “ابغى افهم ليش كل مرة اجي عندك وارجع؟”.. لتنهره من فورها قائلة: “لأنك واقف في النص!”

“الواقفون في المنتصف” .. او العالقون في إسار تراكمات أوهامهم. هذا هو جوهر الفيلم القصير “رقم هاتف قديم” للمخرج السعودي علي سعيد. 

يروي الفيلم، لحظة ادراك بطله ووعيه المتأخر بذاته بعد اقتحامه مجال سنوات منتصف العمر .. ومن ثم تأرجحه بين حيل استهلاكية، يلوذ بها لترشده عن مخارج العبور. اما رحلة طريق روحية، او استلال حادثة (او عُقدة) من ركام الذكريات، و رمنَستها لتبدو كأنها تلبية لنداء نابع من هواتف الداخل والشعور. (وجيل الملينَيال مولع بالحلول الخاطفة؛ اما زر لايك، او ضغطة بلوك.)

البطل (حامد)، وصل الى لحظته الوجودية الداكنة تلك، مجردٌ من اي ثبات مهني، او بنيان عائلي، ودون أي وفاض يذكر — سوى من بعض الذكريات، وسيارة ڤِنتج شبابية لافتة، وقدر من الوسامة، واقبال نسبي على الحياة. (ينصحه مديره الأخير بعدم صرف أجرِه على الوناسة! )

لكنه، اي حامد، عالق في عتمة المنتصف، جراء خيارات ماضيه الخاطئة التي تحبس عنه شعاع العبور. أشباح الماضي هم لوثاته الذهنية التي راكمتها مزاجيته الحادة.. وفتوره ازاء بلوغ النهايات.. واستخفافه بالكمال.. وفزعه، ووسواسه، ازاء الارتباط الدائم بأي فكرة او مهنة او حتى عشيقة.

وحامد لا يعاني من أزمة “رفض” او حرمان. فرئيسه في العمل يتوسله البقاء في الوظيفة، وهو يبدو قادراً على بلوغ عُرف الحبيبة، التي تمنحه “كلوجراً” لائقاً هو محض رفاهية بمعايير ايامنا هذه — فلا يبدو ان الحياة بأسرها قد ادارت له ظهرها بعد. لكن خيباته، هي اختياراته، وتردده القهري ازاء تحييد أحمالها الزائدة، وجفوته لأسباب العبور. 

“ورقم هاتف قديم” ايضا كناية عن الدهر، وصيرورته. “كِبرت”، عبارة تعجبية ساخرة، تفاتح الحبيبة بها البطل لدى رؤيته بعد زمنٍ ضائع، وهي التي غرز الزمان بأنيابه على صورتها ورسْمها وانتهب منها مسحة واسعة من جمالها. وكأن طراوة الأيام قد انقضت، وحل وابلها.

تأتي عبارة الحبيبة الختامية.. مثل صفعة وجودية باردة، ومفتاح ذهبي للعبور. نحن، نِتاج اختياراتنا — معادلة بديهية، تزداد بداهةً، عندما نقص شريط منتصف العمر — فإما حبس مؤبد رفقة اشباح وأوابد الماضي، واما وِلادة ثانية وعمر جديد. 

وخارج القصة، يأتي هذا الفيلم كشاهد على الأيام. جيلنا الذي باشر الاخراج السينمائي آخر عشر سنوات، وشارف افراده على بلوغ نادي الأربعين او انتموا اليه فعلياً .. انه امر تلقائي ان تتحول سينماتهم من قصص وأحلام الشباب وصراعاته، الى سينما عبرة الأيام وصراعات الجيل الذي يكبر ويكابد آلة الزمان. 

علي سعيد، رغم انها تجربته الاخراجية الأولى، يعرف تماماً ماذا يريد ان يقول، وهو يقوله بإقتدار، واقتصاد، على مستوى الطرح والسرد والبناء الفني العام .. كما انه يقوله في كثافة شعرية عذبة. شاعر السينما السعودية الجديد، تنتظر منه فيلمه الروائي الطويل الأول. 

اداء الممثلين الرئيسيين في الشريط جاء مميزاً. حضور ناجز وثابت للبطل يعقوب الفرحان.. وصنعة شجاعة، في التصدي لدور نقيض البطل (أنتي هيرو)، وفي اظهار ملامحه المنكسرة وهيئته الجسدية غير المتسقة مع الكمال الاستهلاكي. وهو حضور منسجم مع الاستعداد الذهني العالي ليعقوب الذي يعقب بطولة اعلى مسلسل سعودي تكلفة في التاريخ، ببطولة فيلم مستقل قصير لا يحمل أيٍ من مقادير الرواج الجماهيري. 

وجاء اداء ام كلثوم سارة بارد، لافتاً في دور الحبيبة السابقة. لقد وقفت بثقة امام ممثل يفوقها في التجربة، وقادت بوصلة المشاعر في المشهد. كانت تتنقل بتناغم بين فرحة الوصال ومرارة الحرمان، بين بقايا الحب ولواعجه، بين رقة العبارة وسلاطة اللسان — وكله في حيّز حركي محدود بضيق درج العمارة. 

التصوير السينماتوغرافي، من السعودي حسن سعيد، كان لافتاً بكادرات متوازنة، وشخصية بصرية ناضجة للفيلم. عاونت الكادرات واسلوب الاضاءة، تركيب الفيلم ليخرج في تلك الخفة الآسرة. 

هناك مشاهد أخرى مميزة كتركيب عناصري، مثل مشهد البطل الذي يحاكي حبيبته السابقة عبر جهاز الانتركوم. لقد بدا وكأنها تنطوي على بذرة، رغبت لو تم البناء عليها بشكل اوسع. 

لما قرأت في نشرة الترويج للفيلم ان اسمه مأخوذ من قصيدة لشاعر عراقي معروف.. “تحسست مسدسي” كما يقولون. توجست لوهلة ان يصطف الفيلم مع خط التجارب القصيرة القادمة من نفس المكان، والتي تسرف في التقعر الفني والاستعراض التجريبي.. لكن فيلم علي سعيد كان معتداً بذاته وخفيفاً، وتوظيفاته الثقافية جاءت ضمنية وغير فجة. 

بعيداً عن بروتوكلات الصوابية النقدية وحفلات المديح السافر التي تنطبع بها احداثنا السينمائية.. هذه تجربة مستقلة تستحق الاحتفاء. الأخوة سعيد عبر شركتهم (ثرو ذا لايت) يستعلنون حالة جادة للانتاج السينمائي الوطني في بلادنا. تجارب وكيانات ستسمق في وقت وجيز لو جير لها الدعم المنهجي الجاد.

* هذا النقد يخص النسخة الاخيرة، وهي غير النسخة التي عرضت في افتتاح مهرجان الافلام السعودية بالدمام – وقد تلافت كل هنّاتها الايقاعية والمونتاجية، وعلى مستوى انهاء القصة. 

نُشِرت في مٌباشرة للتدوين | أضف تعليق

ما هي قصة بيت جالمبيرتي بجدة؟

كتب: محمود عبدالغني صباغ

بيت جالمبيرتي بجدة عام 1905. تصوير بول جيلوت.

لفت انتباهي صورة نادرة من جدة، من تصوير الفرنسي بول جيلوت، تعود للعام 1905م لبيت فاخر وضخم نسبيا مبني على الطراز المتحول الهجين بين التقليدي لعمارة البحر الأحمر والحداثي الاستوائي المنتشر أواخر القرن التاسع عشر، يحدد فيه انه يعود لبيت جالمبيرتي التجاري بجدة. 

ويذكر جيلوت، وهو موظف فرنسي زار جدة في حج 1905 مرافقا لباخرة الحجاج الجزائريين، ان ن. جالمبيرتي ورفيقه رِيني هما “ملوك الحج” اذ يسميهما كل قباطنة البواخر الأجنبية في ميناء جدة بـ”كبيريّ سماسرة الحج”، كونهما اكثر وكلاء السفن البخارية نفوذاً بجدة آنذاك. وهو يحدد موقع البيت التجاري بحارة الشام — والحقيقة ان البيت الذي أزيل لاحقاً في هدميات شق شارع الذهب عام 1961، معروف ومرصود في الذاكرة المصوّرة لجدة، كدار للإعتماد وقنصلية للإنجليز التي شغرته لاحقاً بعد انهيار بيت جالمبيرتي وخروجه عن جدة عام 1906. 

لكن ما هي قصة بيت جالمبيرتي ومن هو مؤسِسه؟ 

المعلومات المتداولة عن مؤسس بيت جالمبيرتي منعدمة، وتلك المتوفرة شحيحة، لكن بعد تمحيص في الوثائق النمساوية، وبعض الأبحاث الفرنسية الأخيرة الصادرة عن وثائق الخارجية الفرنسية، وأرشيف سجلات شركات البواخر البخارية.. نصل الى ن. جالمبيرتي هو مغامر ورائد اعمال ايطالي من مواليد سنة 1853 في كيودجا من نواحي البندقية.. جاء الى جدة واستقر بها في عام 1879.. اشتغل في توريد خزائن النقود الحديدية التابعة لشركة فِرتهايم الى ميناء جدة، ثم تدرّج في وظائف الجاليتين الإيطالية والنمساوية في جدة وفضاء البحر الأحمر، حتى صعد نجمه وتقلد منصب نائب القنصل النمساوي المعتمد في جدة من 1890 الى عام 1905 [وهو أعلى تمثيل قنصلي وقتها]، وتقلد وكالة واحدة من ابرز شركات البواخر البحرية آنذاك، ومحتكرة النقل الأوروبي مع جدة — وهي لويد النمساوية.

بواخر لويد النمساوية

Oesterreichischer Lloyd

بعد افتتاح قناة السويس عام 1869 ضعف نشاط جدة كميناء اعادة تصدير، اذ كان ينظر لها كميناء لوجستي مركزي نظير ما تتيحه بنيتها من مغالق ومخازن [وأحواش] لتنجيل وتخزين ومن ثم شحن البضائع القادمة من الشرق الى الغرب، او العكس.. لكن هذا التراجع، ترافق مع نشاط محموم للنقل البحري البخاري الذي ازدهر بشكل فاق التوقعات.

لما افتتحت لويد النمساوية خطها التجاري المباشر بين قاعدتها ميناء ترييستي الايطالي مع بومباي في 1870.. جذب ذلك مجموعة من الوكلاء الأوروبيين الى جدة، لتمثيل وادارة شئون الشركات والمصالح التي بدأت في التقاطر على مرفأ جدة.

شعار بواخر اللويد النمساوية وقاعدتها ميناء ترييستي الإيطالي.

وصلت اولى بواخر اللويد الى ميناء جدة في فبراير 1870م — كانت الشركة وقتها تعمل في جدة عبر وكيلها في مصر ريتشارد جوريل، وهو تاجر فرنسي مقيم بالاسكندرية، يعاونه في جدة وكيله التاجر المحلي، فائق الثراء، الحاج فرج يُسر. كانت اللويد تجلب لتجار جدة بضائعهم من بومباي ومن الوجهات الاوروبية، وتنقل الى جدة، بشكل شبه حصري، الحُجاج والرُكاب المصريون والمغاربة والشوام.

ورصدت عدة وثائق لمتعاملين دائمين في الشحن التجاري مع اللويد من جدة بعد افتتاح خطها، هم التجّار آل باناجه وهزازي وباجنيد وبازرعة وجمجوم وباهارون.

كان الأهالي يسمون باخرة اللويد.. “مركب الدخان النمساوي” او “بابور النمسا”. فنجد المؤرخ المحلي احمد امين بيت المال، يصف ضمن حولياته ذهاب الوجيه المحلي أحمد أسعد الى الاستانة في 1881 على مركب “بابور النمسا”.

بل ان اول تلغراف برقي رسمي تناقلته خطوط التلغراف عند افتتاحها بين مكة وجدة في عام 1882، كان تلغراف وصول “بابور مركب الدخان النمساوي” الى مينا جدة.

كانت الباخرة “بولا” هي العاملة على خط جدة، فيما سبقتها الباخرة “نارينتا” كأول باخرة للويد ترسو على صفحة مياه جدة.

وبفضل اللويد، تيسر جدولة رحلات متنظمة بين مرافئ المتوسط والبحر الأحمر.. وصارت منتجات جديدة تزاحم تلك التي كانت تأتي من اسواق تقليدية. مثل الأخشاب والسكر والاجواخ الملونة والقطائف المخملية والخزائن الحديد وألعاب الأطفال. 

وكان اول شحنة ترد لجدة عبر اللويد من ميناء تيرييستي هي مضخات ومعدات للمياه — جزء من الإصلاحات المحلية لمنشئات المياه العذبة. 

جلبت اللويد ايضا معها رذاذ حداثة طفيف — فالصحف الأوروبية صارت تصل الى جدة بشكل منتظم [وان كانت الأنظمة العثمانية التعسفية تحجبها تمييزا آنذاك عن الأهالي]. 

وبفضل ملاحي اللويد النمساوية تأسس مركز للأرصاد الجويّة على مدخل ميناء جدة.. قبل ان يسلموه للسلطات المحلية في 1895.

وغير بضائع التجار الاوروبيين والمحليين، ونقل المسافرين الكوليناليين والحجاج، احتكرت اللويد بعض الصادرات النوعية، مثل التزام تصدير عرق اللؤلؤ من جدة وارساله الى مخازنها بميناء ترييستي وتسويقه في أسواق البندقية التي تعتمد عليه في صناعة الأزارير الفاخرة.

تأسست شركة بواخر اللويد النمساوية في 1833، وهي اليوم جزء من مجموعة إيفرغرين العملاقة للشحن البحري.

قنصلية النمسا بجدة

منذ اغسطس 1866 تعالت أصوات لتعيين قنصل فخري للنمسا بجدة، استباقا لأي انتعاش مرتقب قد يحدثه بها افتتاح قناة السويس، لكن تلك الطلبات بقيت حبيسة الأدراج.

في عام 1872 اراد التاجر الإنجليزي المقيم بالإسكندرية جوزف سِغفريد بانتيث ان يتنزع الوكالة الحصرية للويد بجدة، بدلاً من ريتشارد جوريل، وقدم طلبه مشفوعا بطلب التمثيل القنصلي لدولة النمسا بجدة — لكن طلبه جوبه بالرفض من الخارجية النمساوية.

لكن التاجر لورنزو روبيلي من اهل البندقية، سيغدو اول ممثل قنصلي رسمي للنمسا في جدة منذ 15 مارس 1880، اثر مرسوم امبراطور النمسا فرانز جوزيف — اضافة الى اعتباره اول وكيل لشركة بواخر اللويد، يقطن في جدة مع ربيع 1880. 

اثناء ذروة شركات البواخر البخارية العملاقة.. كان السائد ان يمثل وكلائها، المصالح القنصلية للإمبراطورية او الدولة المعنية.

وغير صيانة المصالح التجارية لبواخر اللويد والتجار التابعين لامبراطورية النمسا-هنغاريا، كان منصب قنصل النمسا بجدة يشرف على فضاء يتسع من العقبة الى عدن، ويمتد الى داخل الجزيرة العربية ومرتفعات اليمن.

لم تكن قنصلية النمسا في جدة بقوة وحضور وأسبقية الفرنسية او الإنجليزية ولا الهولاندية بجدة.. فعدد الرعايا التابعين لامبراطور النمسا بجدة مثلا في 1889 لم يتجاوز الخمسين نسمة؛ أربعون منهم يونان وطلاينة يعملون في وظائف [متدنية] في عرف الجالية الأوروبية، اما بقّالون او يديرون حانات الخمور. أما الحجاج الذين ترعى قنصلية النمسا مصالحهم، فقد اقتصر فقط على حجاج البشناق (البوسنة والهرسك) وهم ذوي اعداد ضئيلة لا تتجاوز المائتين كل موسم.

مكث روبيلي بمنصبيه سبع سنوات، ورافق فترته المستقرة، صعود شبكة من العاملين معه، على رأسهم لودوغ ستروس، ترجمان القنصلية، وشخص آخر هو ن. جالمبيرتي.

لأسباب صحية، تتعلق بمناخ جدة الرطب، استقال روبيلي من مناصبه، في اغسطس 1887.. تاركاً وكالة اللويد التجارية لترجمانه لودوغ ستروس.

عمل ستراوس، الذي كان يتحدث العربية بطلاقة ويجيد لهجة الأهالي، ترجمانا لقنصلية النمسا بجدة، وهو مقيم بها قبل تأسيسها منذ 1878.. وهو تاجر تشيكي الأصل من مواليد براغ، أقام بالقاهرة منذ 1865، وأسس بها بيتا تجاريا مع اخوته: (بيت الاخوة ستراوس)، ولهم فرع آخر بالاسكندرية. لكن نشاطه الرئيسي في جدة كان التزام جذب عرق اللؤلؤ من ميناء مصوّع، وشحنه عبر اللويد في جدة الى ميناء تيرييستي.

ولم يشغل ستروس منصب نائب قنصل النمسا الرسمي الا في اكتوبر 1888، لكنه لم يمكث به سوى أشهر قبل ان يتوفى في جدة [ويُدفن بمقبرة الخواجات].

صعد من بعده جالمبيرتي وكيلا للويد في جدة منذ يوليو 5 من عام 1889، كما خلفه في منصب [نائب] القنصل النمساوي.

[تذكر بعض المصادر التاجر تيتو لِيفي كوكيل للويد بجدة في يناير 1879، ويبدو انه كان في تنافس مع روبيلي عليها قبل ان يحسمها الأخير لصالحه].

نابليون جالمبيرتي

Napoleon Gallimberti 

بحسب تقرير نائب القنصل الفرنسي في جدة في 1890، فان بيت جالمبيرتي عد مع بيت فان دير شايس والتاجر مصطفى التلمساني – كأكبر بيوت للتجارة الدولية بجدة.  

ن. جالمبيرتي، اسمه الكامل هو نابليون جالمبيرتي.. بدأ حياته في التجارة والإستيراد.. وكيلاً لخزائن النقود الحديدية التابعة لماركة فِرتهايم في جدة وفضاء البحر الأحمر منذ 1879.

ويمكن ان نعتبر ان جالمبيرتي ينتمي الى طبقة رواد الأعمال او المبادرين الكوليناليين التي افرزها افتتاح قناة السويس.

وهي ذات الطبقة التي انتمى اليها قبله مرشده لورنزو روبيللي.. وساهمت في تجسير الفوارق وتسارع حركة الأفراد والسلع والأفكار. 

عند وفاة مدام روبيللي، حرم القنصل روبيللي، في 3 فبراير 1881.. اراد دفنها في مقبرة النصارى [الخواجات]، خارج سور جدة الجنوبي، لكن راعه وقتها تآكل جدرانها، وتردي حالتها، فقام بالتبرع بما يقارب ألفين فرنك لاعادة تشييدها وتنظيفها— ووضع لها من ميزانية القنصلية، خمسين فرنكا سنويا للصيانة، وجذب معه قناصل الدول الأوروبية الأخرى لمداورة الاشراف عليها.

تعطي تلك القصة ملمح عن الهامش الريادي التي تمتعت به تلك الطبقة.

بريد نادر لنابليون جالمبيرتي من جدة الى فيينا مؤرخ في 1890 (نلاحظ ختمه الخاص باضافة جدة)

ونحن لا نملك وثائق تصف الحياة اليومية الدقيقة لنابليون جالمبيرتي في جدة، لكن يمكن من وثائق مراسلاته القنصلية استنباط شكل حياته العملية.

فهو كان مكلفا مثل بقية القناصل بوصف احداث الحياة السياسية.

فهو يصف في مراسلات هجمات القبائل المحلية على ميناء جدة في 1883، ويسجّل لأزمة اندلاع الكوليرا بميناء جدة عام 1893، والكارثة الانسانية التي رافقتها وتسببت فيها رعونة الإدارة العثمانية.

وفي اثرها.. جلب جالمبيرتي مجموعة اطباء مقيمين، الى جانبه، كان من طلائعهم الطبيب د. جوستن كارلنسكي.. الذي استطاع ان يؤسس مستوصف طبي حديث موسمي بجدة، استفاد منه الأهالي، وترك عندهم سمعة طيبة — وكان كارلنسكي مُلماً بلوائح مؤتمر باريس الصحي الدولي الذي حضره عام 1894.

وعلى مدار أكثر من عقدين بعدها، رتب جالمبيرتي انتداب أطباء خاصين من النمسا، مهمتهم تقديم الرعاية الطبية بعد العودة من مكة لـ 200 حاج بوشناقي يأتون سنويا للحج. لكن اؤلئك الأطباء سيكون لهم دور آخر كما سنرى.

لكن شهرة جالمبيرتي الأكبر ستكون من وقوعه ضمن شبكة مختصرة، كان لها الامتياز الحصري للنقل البخاري على خطوط الملاحة الدولية، في ميناء جدة، ضمن كارتيلات مغلقة مدعومة من السلطة المحلية، وبشراكة تجارية معلنة معها. 

تطور الملاحة البخارية، وسهولة السفر، ادى الى طفرة في طلب ذوي الطبقة المتوسطة للذهاب الى الحج.. وازاء فوضى تنافس شركات البواخر، وتفويت فرص الاستفادة القصوى من موارده، راجت فكرة احتكار خطوط الملاحة.  

احتكار خطوط ملاحة الحج

تعود ممارسة تنظيم نقل الحجاج عبر تحالفات نقابية او كارتيلات مغلقة او تكتلات احتكارية الى حج عام 1883 مع اول كارتيل يدخل حيّز التنفيذ، احتكر نقل حجاج جزائر جاوى وسنغافورة والصين (ملاحة شرق المحيط الهندي) — بقيادة شركة أوشن للبواخر البخارية عبر وكيلها التاجر الهولندي المقيم في جدة بيتر نيكولاس فان دير شايس وشريكه يوسف قدسي أفندي ترجمان قنصلية الإنجليز في جدة، وضمت اليهم التاجر الإنجليزي جي. إس. أوزوالد مع شريكه التاجر المحلي حسن جوهر، وتاجر بواخر المحيط الهندي عمر السقاف عميد تجار سنغافورة مع شريكه المحلي في جدة عمر نصيف، اضافة الى السيّد يوهان كرويت قنصل هولندة العام في جدة.

السنوات التي أعقبتها شهدت تأصيل أطراف كارتيل ملاحة جاوى وبزوغ أطراف اخرى او ظهور مكانها كارتيلات جديدة كلياً او مختلطة.

وصارت محاولات لتعميم النموذج الاحتكاري، على حج القارة الهندية، عبر شركة توماس كوك الإنجليزية منذ يناير 1886.. استمرت الى 1893. ثم في سنوات لاحقة صعد مغامرين من جاوى احتكروا تنظيم البواخر القادمة من الهند. 

بروشور استشراقي من اللويد

حتى بعد افتتاح قناة السويس بسنوات.. ظلت اللويد النمساوية ممسكة بالحصة الأضخم للنقل الشمالي (ملاحة البحر المتوسط)، مع ميناء جدة. 

كانت انحاء سنة 1889 التي شكّل بها جالمبيرتي، اضافة الى الشركتيّن الخديوية والعثمانية، والتاجر روبنسون، سكرتير الراحل فان دير شايس والوكيل الجديد لبواخر الهولت الإنجليزية في جدة— كارتيلاً يحتكر النقل البخاري القادم من المتوسط وموانئ مصر، الى ميناء جدة.

جميع الكارتيلات حظيت بتأييد ورعاية من شكل السلطة السائد، ممثلا في الشريف المحلي والوالي التركي، وبشراكة تجارية معلنة معها.

وجوهر الكارتيلات الإحتكارية هو تنظيم رحلة الحاج، وتقنين المضاربات السعرية، خصوصا في تذاكر الإياب.. وايضا تحقيق مداخيل ريعية ثابتة لأطراف السلطة المحلية. بيد انها لم تخلو، من ممارسات الفساد او الإستغلال خصوصاً من قِبل سماسرة الحج، والشبكات النفعية التي تحيط بها. 

كانت تلك السنوات تشهد موجة استعمارية جديدة على موانئ البحر الأحمر.. وكان الشريف المحلي، عون الرفيق باشا، يستنفر للامساك بحصته الريعية من موارد الحج، وتعزيز مداخيله الذاتية منها، ويريد ايضا الحد من النفوذ الأوروبي المتصاعد.

يذكر المؤرخ المحلي بيت المال، من حوادث 1893 حادثة ارتطام لبابورين أمام ميناء جدة، احدهما طلع على الشِعاب المرجانية قرب جدة، وأغاثوه دون ان يحصل له خلاف، والآخر تضرر في “البمبا” اي المضخة.. وهو يضيف الى ان “بابوري الدخان هما شراكة بين الشريف عون الرفيق، والوالي أحمد راتب باشا لأجل نقل الحجاج”. ما يعني ادراك الوعي المحلي وقتها بشكل الكيانات القائمة في نقل الحج.

لم يكن جالمبيرتي، سوى الوسيط الرسمي للامارة، او “سمسار” من سماسرة الريع الرسمي. 

ماغري ريني وجالمبيرتي

من هما “مُلوك الحج” الذي اشار اليهما بول جيلوت؟ 

وكيف استحقا لقب ”كبيريّ سمسارة الحج” الذي يخلعه عليهما قباطنة البواخر الأوروبية؟

فرض جالمبيرتي ورفيقه ريني الاطار الإداري الذي تلتزم به بواخر الشركات القادمة من المتوسط، ضمن امتياز التزام الحج.

فهما من يحددان تسعيرة تذاكر العودة، وينظمان مواعيد سفر البواخر في طريق عودتها من جدة الى البحر المتوسط عبر ميناء ينبع.

كانت البواخر البخارية الأوروبية التي يتعهدها الثنائي تصل في الموسم من ثلاثين الى أربعين باخرة.

ويمكن تحديد الأموال التي كان يجنيها الثنائي.. على أساس تقسيم كل باخرة.. 

تستحوذ شركة البواخر على الحصة الأكبر (يجب وضع اعتبار الرسوم التشغيلية، واسعار مؤونة الفحم، ورسوم عبور قناة السويس التي بلغت في 1905م مائة وخمسين ألف فرنك فرنسي). ومن بعد دفع الاستقطاعات الثابتة للشريف وللوالي وزمرته، ومن ثم توزيع عمولات قباطنة البواخر واطباء الكورنتينات — كان ربح كل من ريني وجالمبيرتي في الموسم الواحد يتراوح من مائة وخمسين ألف فرنك، الى مائتين ألف فرنك لكل منهما — اي اجمالي 300 ألف فرنك على اساس 30 باخرة أوروبية في الموسم، و400 ألف فرنك على اساس 40 باخرة في الموسم.

لقد دفع تنامي سوق الحج، بكثير من شركات البواخر الأوروبية المسجلة في ايطاليا وفرنسا وروسيا، لتسيير رحلات خلال موسم الحج.

وقد ادركت الشركات المارسيلية، خصوصا المشغلة لخطوط عبر الأطلنطي، ربحية موسم الحج، فصارت تسيّر اليه رحلات (شارتر) في اوقات ركود خطوطها الرئيسية. من ابرزها بعد 1888 الشركة العامة للناقلين البحريين (مِس مار) عبر باخرتها “لا سفوا”، وقطب البحرية المارسيلي، مسيو سِبريان فابر، عبر بواخره “جاليا” و”بيكتافيا” و”جيرجوفيا” و”فلوريا” و”أولبيا” و”امريكا”، و”ماسيليا”.

لما جاءت باخرة “جاليا” التي تتبع سِبريان فابر الى جدة في 1888، على سطحها حجاج جزائريين.. استقبلت في مينائي جدة وينبع عبر وساطة بيت جالمبيرتي.

وليست كل الأعوام تنطوي على رخاء.. اذ ان ايقاف الحكومة الفرنسية للحج الجزائري أربع مرات من عام 1897 الى 1900 تسبب في عسر في موارد النقل لتلك الأعوام.

تذكرة عودة على باخرة “جاليا” التابعة لسِبريان فابر لحج عام 1892. من أبحاث لوك شانتر.
© ANOM, Aix‑en‑Provence

واحتكار ريني وجالمبيرتي جرّ عليهما عدة اعتراضات لممثلي ومناديب الشركات البحرية المتنافسة. وازاء تلك الضغوط، صير الى افتتاح مبنى في جدة، للوكالات المجمعة خلال موسم الحج، تخفق فوقه جميع رايات وبنديرات شركات البواخر.. كمنافسة مفتوحة مع ريني وجالمبيرتي، تهدف الى تحرير احتكار شراء تذكرة العودة، واتاحة خيارات متعددة للحاج.

لكن ذلك المجمّع، لم يكن سوى، اجراء شكلي ووهمي. اذ ان نفوذ بيت جالمبيرتي، ورصيد خبراته وانغراسه في المنظومة الرسمية، ابقت على هوامش حصته دون مساس، ورجحت قرار عودة الحجاج على البواخر التي يشرف عليها دون غيرها.

 لجئ جالمبيرتي في ذلك الى استخدام نفوذه تارة.. او ما يمكن تبريره انه ميزة لحامل الإمتياز.. فكانت البواخر التي تعمل تحت ادارته، تمكث أيام أقل في الميناء لأخذ تصريح العودة واشارة الإبحار الى ينبع، مقارنة بتلك التي تعمل خارج اطاره الإداري.

كما انه استعمل وسائل دعائية.. منها امتلاكه لوسائل ومقومات احتكار الإشاعة وتوجيهها. ومنها ما اخبر به جيلوت في حج 1905، عندما رفض قبطان سفينة روسية آقلّت حجاجا الى جدة المشاركة ضمن اطار ريني وجالمبيرتي، واراد نقل الحجاج رغما عنهما.. فكان ان اشيع في ميناء جدة، وبين القباطنة، عبر اعوان وسماسرة ريني وجالمبيرتي، ان بارجة يابانية شوهدت في محيط جدة البحري تنتظر خروج السفينة الروسية لتضربها وتغرقها. فكان ان أثار روع وذعر الحجاج الذين احجموا عن ركوب تلك السفينة، وعادوا الى التعامل ضمن أطر جالمبيرتي.

مجمع وكالات البواخر الأوروبية بجدة .. وهو المبنى الذي اعتبره جيلوت “وهميا”. الصورة من بول جيلوت بتاريخ 1905

وكان لبيت جالمبيرتي دور بيروقراطي رسمي، فهو يملك قرار اعلان الوباء، او اعلان خلو موسم الحج منه. تدعمه في ذلك، تجهيرات بنيّته الصحية المتراكمة، وطاقم اطباؤه، وقبلها.. اعتبارات ارتباط مصالحه بالمصالح التجارية الرسمية الشريفية.. ومن خلفها الإرادة المحلية لإبطال التأطيرات الصحية كأداة سياسية عند القوى الإستعمارية.

لكن كيف تأسس تحالف ريني وجالمبيرتي؟

في محاولة لتعظيم مكاسب الحج من الشركات الأجنبية، للخزانة الرسمية، ابتكر جالمبيرتي، إجبار شركات البواخر، الى التوقف في طريق عودتها، في ميناء ينبع، لينزل الحجاج لزيارة المدينة المنورة، كجزء غير منفصل من رحلة الحج.

كانت بواخر “ماغري ريني وشركاهما” ابرز من تجوب الخطوط البينية بين موانئ البحر الأحمر الى جانب شركة البواخر الخديوية المصرية الرسمية. 

يذكر الضابط الروسي دولتشين الذي زار حج 1898 وجود باخرتين قديمتين تعملان بين مرافئ البحر الأحمر. تحديداً خط جدة-ينبع، وخط جدة-السويس، تتبعان شركة الملاحة ماغري ريني وشركاه.

كان تحالفهما حتمياً لتملك ريني للبواخر، التي تعمل على خط ينبع، الذي صار يشهد ازديادا مطردا في الطلبات.

وربما نُظر الى شركة ريني للملاحة، كنواة لأسطول محلي، لكن الشركة افتقرت للكفائة التشغيلية وعناصر الاستدامة. 

ولا يمكن التحامل بالنظرة السلبية الدامغة على ارث ريني وجالمبيرتي، في ميناء جدة، فهما عبّرا عن مفاهيم عصرهما السائدة. 

اضافة الى كونهما تعبير عن إرادة محلية رسمية لتوطين صناعة النقل البخاري واستقلاله، والابتكار في عوائده وتعظيم الموارد الذاتية منه.

ويمكن ان يرد لهما كثير من الريادات في الإشتراك في تطوير منظومة ملاحة بحرية محلية للنقل وللتجارة الدولية، وفي وضع قواعد راسخة لأعمال الوساطة الرسمية في ميناء جدة، وفي الترويج الى الحج الكمّي بين المجتمعات المتوسطية المسلمة وجذب شركات البواخر الأوروبية. كما ان للويد، والشركات الحليفة مثل سِبريان فابر، ريادة في توحيد تدابير صحية عالية، ورفع مستوى الخدمات على بواخرها من الحاق مستوصفات على متنها، والتأكيد على وفرة المياه العذبة في صهاريجها عند انطلاقها من موانئ اوروبا، وفي توفير أدوية ومنتجات غذائية منوعة خصوصا لركاب الدرجات العليا، ضمن تدابير أخرى، مهدت الى أنسنة رحلة الحج، وكانت مقدمة موضوعية لحج الرفاهية.

وليست قرارات تأجيل نزول الحجاج الى ميناء جدة، او عودة البواخر، واعطاءها تصريح الإبحار، مدفوعة دوماً بأطماع تجارية او نزعات سادية. هذه التصاريح المتأخرة، والتي تلقى سُخط الحجاج العفوي، كانت تستهدف أحياناً توازن اقتصاد الحج، لأن نزول جميع الحجاج الواصلين دفعة واحدة، الى ميناء جدة، او وصول العائدين دفعة واحدة الى ميناء ينبع، يؤدي الى شحة الجِمال وبالتالي ارتفاع أسعار الكِراء وبقية السلع والخدمات.

ثم انه لا يمكن الاعتماد بشكل كلي على تقييم تقارير الموظفين الاستعماريين، وأحكامهم اللاذعة ضداً على ريني وجالمبيرتي، خصوصا انها كُتابها لا تخلو آرائهم من النزعة الإستعمارية، والنظرة الإستشراقية للحج.

بنك جالمبيرتي

والى جانب نشاط البيت التجاري، ونشاط النقل البحري. نشط بيت جالمبيرتي بجدة كبنك او منشأة مصرفية دولية.

كان في جدة.. بعيد ازمة كساد 1873.. منشأتين أوروبيتين تباشر التعاملات المالية والمصرفية الدولية هما بيت فان دير شايس الهولندي، وبيت جالمبيرتي. ويعود لهما الفضل الأوسع في تأسيس نواة البنية التحتية المصرفية الحديثة في بلادنا. مؤسسة التاجر فان دير شايس، وقد ورثتها لاحقا الجمعية التجارية الهولندية بجدة، وهي نواة البنك الهولندي، أول بنك تجاري رسمي بحسب أنظمة المملكة العربية السعودية والذي يعمل الى الآن، كما انه عمل في فترات التأسيس كبنك مركزي، يحدد صرف العملة، قبل طرح العُملة الوطنية. اما بنك جالمبيرتي، فتوزعت خبرته وانشطته ومجال عمله بعد انهياره في 1906، بيّتي زينل وفاضل عرب، المحلييّن. 

[دخل بيت تجاري ثالث في جدة لاحقاً وباشر معهما كبنك نشط ومنشأة مصرفية دولية وهو بيت السادة جيلاتلي هنكي لمتِد الإنجليزي].

كانت الكمبيالات الواصلة الى جدة، تصرف في بنك جالمبيرتي في جدة، مقابل عملة البلد الرسمية وهي الجنية الإفرنجي الذهب. شبكة علاقاته البحرية الممتدة، وسمعته الدولية، اكسبته وكالات لأبرز بيوت المال الأوروبية، وسمحت له لعب دور البنك في تحويل المبالغ المالية الكبيرة وفق آخر انظمة ومعاهدات تصدر في أوروبا. 

يصف جيلوت، في تقريره، تحويل السيد روزمبوك عشر كمبيالات واصلة من حكومة تونس الى شريف مكة، تقدر بمائة ألف فرنك، الى عملة البلد الذهبية في بنك جالمبيرتي في جدة في حج عام 1905، وربحه اثرها عمولة لا تتجاوز ثلاثة آلاف فرنك. 

من عمولة لعملية وساطة واحدة يمكن ان نستوعب هامش الأموال التي كان يراكمها بنك جالمبيرتي عبر ذراعه المصرفي، كما ان نقدّر حجم سيولته جراء التدفقات النقدية اثناء شهريّ موسم الحج.

ان المفارقة ان جالمبيرتي الذي بدأ نشاطه كوكيل لأصلب خزائن النقود الحديدية الى جدة، سيستحيل بيته التجاري المصرف الأكبر بجدة.

انهيار بيت جالمبيرتي

تشير وثائق الدولة النمساوية الى تلغراف بعثه جالمبيرتي في 7 مايو 1903 يشير فيه الى خلافات تجارية عميقة ومعقدة بينه وبين الوالي التركي، وصلت الى المحاكم التجارية.. والى انه قد ترك جدة بعد تلغرافه بيومين. لكن تقرير جيلوت الصادر بعد ذلك بعامين، يؤكد تواجد بيت جالمبيرتي في تنظيم حج 1905، بل ويؤكد التواجد الشخصي لمسيو جالميبرتي وشريكه ريني، من جديد، فهو يصف وصولهما الى جزيرة أبو سعد (حيث حجر جدة الصحي) ومن ثم دخولهما الى اليابسة، تزامناً مع بدء الموسم.

والصواب ان البيت ظل وكيلاً رسمياً للويد النمساوية الى سنة 1905، وهي السنة التي سيتوفى في منتصفها الشريف عون الرفيق، وتتفكك معه شبكته الممسكة بالسلطة، والتي تدير كل شراكات النقل والإحتكارات القائمة.

نرى في أرشيف اللويد النمساوية ان الحاج زينل علي رضا صار هو وكيل اللويد مع حج سنة 1906.. ثم نرصد لاحقاً دخولاً اضافياً لبيتيّ فاضل عرب وجيلاتلي هنكي لتمثيل مصالح الشركة في ميناء جدة.

لكن تلغراف جالمبيرتي كان كمن يتنبأ بالانهيار الوشيك.. الذي سيجري الاسراع فيه مع تغير شكل السلطة.

ومثلما ارتبط انتحار التاجر فان دير شايس في منزله بجدة في 1889 بتغييرات في شكل الكارتيل التجاري المحتكر للنقل، اثر تدخلات الوالي التركي المؤقت والعنيد نافذ باشا، نلاحظ ان انهيار بيت جالمبيرتي تزامن مع خروج السلطة الحامية لمصالح ونفوذ البيت. 

في سنواته الأخيرة جلب جالمبيرتي الى جدة، شاب ذكي ولبق، من يهود الإسكندرية اسمه سلفيو روزنبورغ، كان يعمل في وكالة شركة البواخر الروسية، ليعاونه في جدة في وكالة اللويد وفي أعمال تنظيم بواخر الحج. لكننا نلاحظ عودة روزنبورغ الى الاسكندرية مع 1905، وهي سنة انهيار البيت وخروجه عن جدة.

ان كانت النهاية الدرامية لبيت جالمبيرتي ثابتة، تبقى تفاصيلها غامضة، في انتظار خروج مزيد من الوثائق لتكشف الجوانب المعتمة عن سِيرة البيت ومؤسسه.

مبنى بيت جالمبيرتي

يقع مبنى بيت جالمبيرتي في “حارة القناصل” التي تستحوذ على الركن الشمالي الغربي من حارة الشام. وقد بني البيت أساساً كمقر لوكيل اللويد النمساوية ومقر لقنصلية النمسا بجدة.. ويرجح ان يعود بناءه الى حدود عام 1880، وانه بُني على أرض ليست من أملاك قاطنيه، نظراً لقرار صادر سنة 1878 يمنع الأجانب بما فيهم القناصل من تملك أراضٍ بجدة خلفية شراء روس وداغستان لعقارات عديدة بجدة. تم الالتفاف على قيود الملكية الجديدة، بالاتفاق على ايجاره لخمسة عشر سنة على قاطنيه بإيجار متهاود. 

تحول الدار الى دار قنصلي للإنجليز، مع انتهاء وكالة جالمبيرتي على اللويد النمساوية في 1906.

بيت جالمبيرتي. عام 1884 من مقتنيات سنوك هوروخرونية ( جامعة لايدن، الارشيف الإلكتروني).

ومن أقدم صورة فوتوغرافية متوفرة للبيت من أرشيف جامعة لايدن، تعود للعام 1884م، نلاحظ ان عمارته مرت بثلاث تحوّلات.

عند افتتاحه، كمنشأة نمساوية، تألف المبنى من ثلاث طوابق، بأسقف مرتفعة لكل طابق، ومرافق علوية تشكل ثلثيّ طابق رابع. تكسو عمارته جدران سميكة.. وتعلو واجهته الرئيسية شرفتان بتصميم حداثي متأثر بالعمارة النمساوية الحديثة، تطلان على البحر، فيما تزين الرواشين الخشبية المتقنة واجهتيه الرئيسية والغربية (وربما بقية واجهاته). وللبيت مدخلان شمالي رسمي، وآخر غربي خاص، مع فناء صغير يحيط بواجهته الشرقية. يعلو الدار صاري علم هو الأعلى بارتفاع 18 متراً [كان غرض الرايات والبنديرات الخاصة بأعلام الدول و/او شعارات شركات البواخر لتهتدي اليها البواخر التابعة لها لحظة وصولها للميناء].

وعلى زمن جالمبيرتي.. سنلاحظ اضافة ملحق من طابقين في موضع الفناء الشرقي، تكسوه واجهة زجاجية فريدة. كما تم اضافة فناء رحب امام الواجهة الشمالية الرئيسية، مسوّرة بالحديد الزهر، لها بوابة شرقية — ويرجح ان تكون هذه الاضافة لأسباب أمنية تلت احترازات حماية القناصل بعد حادثة مقتل [نائب] القنصل الإنجليزي في 1895. اما تحولات واجهته الرئيسية، تتضح في سد شرفة الطابق الثاني، بروشانين ضخمين، مع إلحاق دوره الأرضي بردهة خشبية، من الأعمدة والبواكي الخشبية الرفيعة، تتبع اسلوب العمائر الاستوائية الذي ساد بالمستعمرات الأوروبية والذي انتشر في مباني الجالية الأوروبية على طول مدن ساحل البحر الأحمر والقنال، وانتشر بجدة آخر القرن التاسع عشر. 

القنصلية الإنجليزية بجدة، تصوير كورنواليس 1918

ثم في اول زمن تحول المبنى لقنصلية الإنجليز. في صورة مأخوذة من السير كورنواليس (بين عامي 1916 – 1918) لا تكاد توجد تعديلات عمرانية على البيت عن حقبة جالمبيرتي، سوى اضافة بعض السواتر والمظلات التي تخفف من تسلط اشعة الشمس. لكن في فترة لاحقة، وفي صورة تعود لعام 1938، سنلاحظ استئصال الروشان الأوسط الضخم، والتوسع في الواجهة في الفراندات الخشبية ذات الأعمدة الخشبية الدقيقة، التي تقتبس اسلوب شاليهات فيتشي التابعة لإمبراطور فرنسا نابليون الثالث، والتي صار التوسع بها ملمحا وتراثاً خاصاً لعمارة البحر الأحمر المتحولة، والخيار المفضل لعمارة الطبقة العالية بجدة آنذاك.

القنصلية الانجليزية بجدة عام 1938

ومن المعلومات المتناثرة عن تاريخ البيت/المقر.. تذكر المصادر ان ايجار البيت السنوي وصل في 1910 الى 120 جنيه (ذهب) انجليزي. وبحسب رواية القنصل الإنجليزي بولارد، الذي قطن بالبيت، لم تدخل البيت الكهرباء والمراوِح الكهربائية، سوى في عام 1924.

يرجح ان الذي تعهد بناء البيت هو كبير مقاولي البلدة آنذاك — حسن ابن التاجر المحلي موسى بغدادي، الذي التزم بناء عدد من بيوت المدينة الفاخرة بحارة القناصل الحديثة من ضمنها بيت التاجر الهولندي فان دير شايس [بيت البلد حالياً]. وربما تكون أخشابه مزيج من خشب القندل الجاوي الغليظ، امتياز التاجر السقاف، وبين الخشب الأوروبي الحديث الذي صار يأتي من ميناء ترييستي، وارِد اللويد، من اخشاب صنوبر أواسط أوروبا.

مصير البيت اليوم؟ 

صورة نادرة لبيت جالمبيرتي (القنصلية الإنجليزية)، ويظهر الى الشرق منه بيت زينل المسلح (بيت هولندي)، ويظهر في اقصى الغرب مبنى البحرية (الشرطة). الصورة قبل شق شارع الذهب.

موقع البيت اليوم هو الأرض الفضاء الواقعة، على شارع الملك عبدالعزيز، غرب بيت زينل المسلّح (بيت هولندي) الذي اعادت وزارة الثقافة ترميمه العام الفائت. كما تقتطع السكة النافذة لشارع الذهب جزء من الحدود التاريخية للبيت. تعود ملكية الأرض الحالية لأحد تجار العقار بجدة، وربما تستحسن وزارة الثقافة، اعادة احياؤه على طرازه القديم، على أنقاض البيت، او تعيد جزء منه دون فنائه الأمامي وملاحقه، ليكون معلماً حضارياً ونموذجا لشكل العمارة المتحولة بجدة التاريخية، و/أو تشغّله كمرفق متحفي يروي ملامح من قصة ذروة النقل البخاري بجدة، بخارطته الدولية المتشابكة، وصراعاته التجارية المحمومة، من عام 1870 وحتى اجزاء متقدمة من القرن العشرين.

صورة جوية لحارة الشام يظهر فيه مبنى بيت جالمبيرتي
مقطع علوي لمبنى بيت جالمبيرتي.

المراجع:

  • تقرير الموظف بول جيلوت. رحلة الى مكة عام 1905.  نشره لوك شانتر وعلّق عليه: لويس بلين وفيليب بيتريا . ترجمه منير الأحمد. AOM, GGA, 16h / 88, report of the Government Commissioner Gillotte.
  • وثائق الدولة النمساوية.
  • سجلات شركة لويد النمساوية.
  • تقرير نائب القنصل الفرنسي عام 1890: CCC Djedda 4, vice-consulat de France, Djedda, 10/01/1890. عبر فيليب بيتريا من كتاب: LE NÉGOCE DES LIEUX SAINTS
  • أرشيف جامعة لايدن. الأرشيف الإلكتروني. مقتنيات سنوك هوروخرونية. صورة القنصلية النمساوية عبر فان دير شايس والتعليق بخط يده. احالة من الباحث بدر بدرة.
  • الرحلة السرية للضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين الى مكة 1898-1899. للكاتب يفيم ريزفان.
  • مخطوط النخبة السنية في الحوادث المكيّة لأحمد أمين بيت المال. تحقيق حسام مكاوي.
  • The Camels Must Go, Reader Bullard

1961, Faber and Faber, London

  • صورة تذكرة عودة الحاج من لوك شانتر: Le pèlerinage à La Mecque à l’époque contemporaine à travers les sources françaises consulaires et coloniales
نُشِرت في مٌباشرة للتدوين | الوسوم: , | تعليق واحد

فيلم “عروس الشعر” .. تجربة مستقلة واعدة

greatmuseposter

   حالة من الإغراق الاستهلاكي تجتاحنا. نشاط السينما يعود دون محتوى “سينمائي” أصيل. برمجة استهلاكية صرفة في صالات العرض. التجار يقودون التوجّه ويحتكرون الذائقة. ارتباك يغلف المرحلة الإنتقالية. تسارع في الأحداث والتحولات والمنعطفات. مرحلة متفائلة مثيرة، لا تخلو من منغصات وشبهات الاستعراض والدعاية. نجوم السوشال ميديا ومشاهير المؤثرين يستحوذون على المشهد باهتماماتهم -ومعاركهم- الأنانية الضيّقة، وقيمهم التسليعية وذيولها الرجعية.

ازاء هذا المشهد المتوتر كان من المبهج، والمريح للأعصاب، ان تختلس ساعة ونيف لتشاهد فيلم محلي طويل، يحكي في إيقاع بطيء ساكن وحكاية بسيطة غير مشوّقة، معاناة ذاتية صرفة تكشف معها عن رؤية إخراجية واعدة، وصوت مستقل واضح لمخرج سعودي صاعد.

فيلم “عروس الشعر” لعبدالرحمن خوج، الذي انطلق عرضه الأول (والوحيد) بمقر مجلس الفن السعودي بحي الزهراء يوم الأربعاء الماضي، اتخذ عدم التشويق ولا الاثارة غرضا أساسياً في مقاربته الفنية. فهو فيلم يُصنع خارج مكائن الكسب التجاري، او الاستعراض الشخصي، او اغراءات التسلية، كما انه فيلم لا يقلّد الخارج ولا الداخل، ولايقع في فخ او سطوة الخطابات السائدة.

يحكي الفيلم معاناة صانعه -وجيله- من سطوة الأبويّة والبرمجة الاجتماعية التي فرضتها أوهام ورجعيات الطبقة المتوسطة في المدن على جيل الشباب الصاعد. ينحدر  المخرج “عبدالرحمن” من عائلة محافظة في جدة تعود أصولها للطائف، ومثله يبدو بطله في الفيلم “نواف”، الذي يجسد تجربته الحقيقية في الحياة، في شخصية شاب فتح عينيه على أقدار شبه مرسومة سلفا، يدور معها في دائرة مفرغة، كأنه سيزيف الذي يعاني للانفكاك من لعنة صخرته المشؤومة.

وعروس الشعر هي ذات البطل “نواف” الوجودية، التي يعبر عنها بمونولوج مستمر في شريط الفيلم. ولأن حياة نواف العاطفية فقيرة، وتجربته مع الجنس الآخر تبدو منعدمة، فهو يصطفي من خيالاته عروساً يقول لها الشعر، الذي هو تعبيره الذاتي ونشيده الوجودي. وهو تكنيك أجاده المخرج إيقاعيا وبصريا، وأعطى للفيلم شخصيته الخاصة، وان اخفق في ضبط وتكثيف نصوصه الشعرية السردية، التي كانت اضعف ما في الفيلم ومحور حديث ناقديه.

تبدو جدة فارغة من الناس، تماما مثلما هي حياة نواف ورفاقه الذين ينتمون لطبقة متوسطة حائرة. فيما تظهر الجموع فقط كأشباح تطارد البطل الذي يريد ان ينتصر لذاته. كما يتعمد المخرج عدم إظهار اي جوانب جمالية او بطولية او كرنفالية من المدينة، لتتماشى مع ضئالة أحلام “نواف” وحياته الفاترة وعالمه الأحادي.

صُور “عروس الشعر” في جدة في اغسطس ٢٠١٦ (صوّر “بركة يقابل بركة” في جدة في سبتمبر ٢٠١٥)، ليصنف من موجة أفلام ما قبل الانفتاح الرسمي على السينما. فهو يأتي في مرحلة انتقالية مثيرة للسينما المحلية.. انعكست على ظروف انتاج الفيلم. فهو يندرج إنتاجيا من اعمال “المايكرو-ميزانية”.. وقد استعان المخرج في تصويره، بطاقم شبه كامل من طالبات وخريجات جامعة عفت، حيث كان يعمل المخرج محاضرا في كليتها للفنون البصرية.

والفيلم ولادة مبهجة ليس لصانعه عبدالرحمن خوج فحسب، بل لطاقم فني محلي واعد. فعدسة وكوادر روان نمنقاني (اول مديرة تصوير سعودية) تبدو راشدة وذات شخصية ناضجة وحس يجمع بين السردي والفني. ديكور سارة شرف يبدو مميز وثابت. مونتاج مريم خياط يحمل إيقاع متماسك نادر في الافلام التدشينية. فيما اسماء مثل خالدة باطويل ومي الشيباني وجواهر العامري وسليم الحمصي تبدو بارزة في قسمي الانتاج والإخراج. اما تمثيل وبطولة اسماعيل الحسن فهي اعذب الاكتشافات السينمائية المحلية مؤخرا، حيث استطاع المخرج ان يوجهه ببراعة تامة في شخصية “نواف” المغترب عن مجتمعه، أفسحت للحسن مساحة كشف فيها عن موهبة فريدة ابعد من مجرد إلقاء الكوميديا الارتجالية على خشبة المسرح. وأضافت الموسيقى الخاصة بالفيلم بعدا اغترابيا انسجم مع حالة الاغتراب التي يعبر عنها البطل. فيما بقي تسجيل الصوت وهندسته اضعف تقنيات الفيلم، مع بعض الإخفاق الطفيف في اختيارات الكاستنغ.

فيلم “عروس الشعر” في محصلته فيلم مبهج؛ رغم تجسيده لمعاناة ذاتية مرّة، ورغم مقاربته المأساوية للانفكاك من إسار الأبويّة الخانق، إلا انه -ايضا- في أصله فيلم يرسخ لقبول الحياة والتسامح مع مُنغصاتها. انه يقول؛ برغم مرارة الواقع وفجاجته، من الممكن مواجهته بالإصغاء للجانب الشعري من الحياة.

نُشِرت في مراجعة نقدية, سينما وفن | أضف تعليق