فيلم “عروس الشعر” .. تجربة مستقلة واعدة

greatmuseposter

   حالة من الإغراق الاستهلاكي تجتاحنا. نشاط السينما يعود دون محتوى “سينمائي” أصيل. برمجة استهلاكية صرفة في صالات العرض. التجار يقودون التوجّه ويحتكرون الذائقة. ارتباك يغلف المرحلة الإنتقالية. تسارع في الأحداث والتحولات والمنعطفات. مرحلة متفائلة مثيرة، لا تخلو من منغصات وشبهات الاستعراض والدعاية. نجوم السوشال ميديا ومشاهير المؤثرين يستحوذون على المشهد باهتماماتهم -ومعاركهم- الأنانية الضيّقة، وقيمهم التسليعية وذيولها الرجعية.

ازاء هذا المشهد المتوتر كان من المبهج، والمريح للأعصاب، ان تختلس ساعة ونيف لتشاهد فيلم محلي طويل، يحكي في إيقاع بطيء ساكن وحكاية بسيطة غير مشوّقة، معاناة ذاتية صرفة تكشف معها عن رؤية إخراجية واعدة، وصوت مستقل واضح لمخرج سعودي صاعد.

فيلم “عروس الشعر” لعبدالرحمن خوج، الذي انطلق عرضه الأول (والوحيد) بمقر مجلس الفن السعودي بحي الزهراء يوم الأربعاء الماضي، اتخذ عدم التشويق ولا الاثارة غرضا أساسياً في مقاربته الفنية. فهو فيلم يُصنع خارج مكائن الكسب التجاري، او الاستعراض الشخصي، او اغراءات التسلية، كما انه فيلم لا يقلّد الخارج ولا الداخل، ولايقع في فخ او سطوة الخطابات السائدة.

يحكي الفيلم معاناة صانعه -وجيله- من سطوة الأبويّة والبرمجة الاجتماعية التي فرضتها أوهام ورجعيات الطبقة المتوسطة في المدن على جيل الشباب الصاعد. ينحدر  المخرج “عبدالرحمن” من عائلة محافظة في جدة تعود أصولها للطائف، ومثله يبدو بطله في الفيلم “نواف”، الذي يجسد تجربته الحقيقية في الحياة، في شخصية شاب فتح عينيه على أقدار شبه مرسومة سلفا، يدور معها في دائرة مفرغة، كأنه سيزيف الذي يعاني للانفكاك من لعنة صخرته المشؤومة.

وعروس الشعر هي ذات البطل “نواف” الوجودية، التي يعبر عنها بمونولوج مستمر في شريط الفيلم. ولأن حياة نواف العاطفية فقيرة، وتجربته مع الجنس الآخر تبدو منعدمة، فهو يصطفي من خيالاته عروساً يقول لها الشعر، الذي هو تعبيره الذاتي ونشيده الوجودي. وهو تكنيك أجاده المخرج إيقاعيا وبصريا، وأعطى للفيلم شخصيته الخاصة، وان اخفق في ضبط وتكثيف نصوصه الشعرية السردية، التي كانت اضعف ما في الفيلم ومحور حديث ناقديه.

تبدو جدة فارغة من الناس، تماما مثلما هي حياة نواف ورفاقه الذين ينتمون لطبقة متوسطة حائرة. فيما تظهر الجموع فقط كأشباح تطارد البطل الذي يريد ان ينتصر لذاته. كما يتعمد المخرج عدم إظهار اي جوانب جمالية او بطولية او كرنفالية من المدينة، لتتماشى مع ضئالة أحلام “نواف” وحياته الفاترة وعالمه الأحادي.

صُور “عروس الشعر” في جدة في اغسطس ٢٠١٦ (صوّر “بركة يقابل بركة” في جدة في سبتمبر ٢٠١٥)، ليصنف من موجة أفلام ما قبل الانفتاح الرسمي على السينما. فهو يأتي في مرحلة انتقالية مثيرة للسينما المحلية.. انعكست على ظروف انتاج الفيلم. فهو يندرج إنتاجيا من اعمال “المايكرو-ميزانية”.. وقد استعان المخرج في تصويره، بطاقم شبه كامل من طالبات وخريجات جامعة عفت، حيث كان يعمل المخرج محاضرا في كليتها للفنون البصرية.

والفيلم ولادة مبهجة ليس لصانعه عبدالرحمن خوج فحسب، بل لطاقم فني محلي واعد. فعدسة وكوادر روان نمنقاني (اول مديرة تصوير سعودية) تبدو راشدة وذات شخصية ناضجة وحس يجمع بين السردي والفني. ديكور سارة شرف يبدو مميز وثابت. مونتاج مريم خياط يحمل إيقاع متماسك نادر في الافلام التدشينية. فيما اسماء مثل خالدة باطويل ومي الشيباني وجواهر العامري وسليم الحمصي تبدو بارزة في قسمي الانتاج والإخراج. اما تمثيل وبطولة اسماعيل الحسن فهي اعذب الاكتشافات السينمائية المحلية مؤخرا، حيث استطاع المخرج ان يوجهه ببراعة تامة في شخصية “نواف” المغترب عن مجتمعه، أفسحت للحسن مساحة كشف فيها عن موهبة فريدة ابعد من مجرد إلقاء الكوميديا الارتجالية على خشبة المسرح. وأضافت الموسيقى الخاصة بالفيلم بعدا اغترابيا انسجم مع حالة الاغتراب التي يعبر عنها البطل. فيما بقي تسجيل الصوت وهندسته اضعف تقنيات الفيلم، مع بعض الإخفاق الطفيف في اختيارات الكاستنغ.

فيلم “عروس الشعر” في محصلته فيلم مبهج؛ رغم تجسيده لمعاناة ذاتية مرّة، ورغم مقاربته المأساوية للانفكاك من إسار الأبويّة الخانق، إلا انه -ايضا- في أصله فيلم يرسخ لقبول الحياة والتسامح مع مُنغصاتها. انه يقول؛ برغم مرارة الواقع وفجاجته، من الممكن مواجهته بالإصغاء للجانب الشعري من الحياة.

هذا المنشور نشر في مراجعة نقدية, سينما وفن. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق