الواقفون في المنتصف .. وأزمة العبور 

قراءة نقدية لفيلم “رقم هاتف قديم”

تعرض الحبيبة السابقة، على البطل الذي يطرق أعتاب دارها بعد طول غياب، رفقتها الى داخل شقتها، لكنه يتلعثم ويتردد ويتعرقل في أبابته وتفاسير حنينه “ابغى افهم ليش كل مرة اجي عندك وارجع؟”.. لتنهره من فورها قائلة: “لأنك واقف في النص!”

“الواقفون في المنتصف” .. او العالقون في إسار تراكمات أوهامهم. هذا هو جوهر الفيلم القصير “رقم هاتف قديم” للمخرج السعودي علي سعيد. 

يروي الفيلم، لحظة ادراك بطله ووعيه المتأخر بذاته بعد اقتحامه مجال سنوات منتصف العمر .. ومن ثم تأرجحه بين حيل استهلاكية، يلوذ بها لترشده عن مخارج العبور. اما رحلة طريق روحية، او استلال حادثة (او عُقدة) من ركام الذكريات، و رمنَستها لتبدو كأنها تلبية لنداء نابع من هواتف الداخل والشعور. (وجيل الملينَيال مولع بالحلول الخاطفة؛ اما زر لايك، او ضغطة بلوك.)

البطل (حامد)، وصل الى لحظته الوجودية الداكنة تلك، مجردٌ من اي ثبات مهني، او بنيان عائلي، ودون أي وفاض يذكر — سوى من بعض الذكريات، وسيارة ڤِنتج شبابية لافتة، وقدر من الوسامة، واقبال نسبي على الحياة. (ينصحه مديره الأخير بعدم صرف أجرِه على الوناسة! )

لكنه، اي حامد، عالق في عتمة المنتصف، جراء خيارات ماضيه الخاطئة التي تحبس عنه شعاع العبور. أشباح الماضي هم لوثاته الذهنية التي راكمتها مزاجيته الحادة.. وفتوره ازاء بلوغ النهايات.. واستخفافه بالكمال.. وفزعه، ووسواسه، ازاء الارتباط الدائم بأي فكرة او مهنة او حتى عشيقة.

وحامد لا يعاني من أزمة “رفض” او حرمان. فرئيسه في العمل يتوسله البقاء في الوظيفة، وهو يبدو قادراً على بلوغ عُرف الحبيبة، التي تمنحه “كلوجراً” لائقاً هو محض رفاهية بمعايير ايامنا هذه — فلا يبدو ان الحياة بأسرها قد ادارت له ظهرها بعد. لكن خيباته، هي اختياراته، وتردده القهري ازاء تحييد أحمالها الزائدة، وجفوته لأسباب العبور. 

“ورقم هاتف قديم” ايضا كناية عن الدهر، وصيرورته. “كِبرت”، عبارة تعجبية ساخرة، تفاتح الحبيبة بها البطل لدى رؤيته بعد زمنٍ ضائع، وهي التي غرز الزمان بأنيابه على صورتها ورسْمها وانتهب منها مسحة واسعة من جمالها. وكأن طراوة الأيام قد انقضت، وحل وابلها.

تأتي عبارة الحبيبة الختامية.. مثل صفعة وجودية باردة، ومفتاح ذهبي للعبور. نحن، نِتاج اختياراتنا — معادلة بديهية، تزداد بداهةً، عندما نقص شريط منتصف العمر — فإما حبس مؤبد رفقة اشباح وأوابد الماضي، واما وِلادة ثانية وعمر جديد. 

وخارج القصة، يأتي هذا الفيلم كشاهد على الأيام. جيلنا الذي باشر الاخراج السينمائي آخر عشر سنوات، وشارف افراده على بلوغ نادي الأربعين او انتموا اليه فعلياً .. انه امر تلقائي ان تتحول سينماتهم من قصص وأحلام الشباب وصراعاته، الى سينما عبرة الأيام وصراعات الجيل الذي يكبر ويكابد آلة الزمان. 

علي سعيد، رغم انها تجربته الاخراجية الأولى، يعرف تماماً ماذا يريد ان يقول، وهو يقوله بإقتدار، واقتصاد، على مستوى الطرح والسرد والبناء الفني العام .. كما انه يقوله في كثافة شعرية عذبة. شاعر السينما السعودية الجديد، تنتظر منه فيلمه الروائي الطويل الأول. 

اداء الممثلين الرئيسيين في الشريط جاء مميزاً. حضور ناجز وثابت للبطل يعقوب الفرحان.. وصنعة شجاعة، في التصدي لدور نقيض البطل (أنتي هيرو)، وفي اظهار ملامحه المنكسرة وهيئته الجسدية غير المتسقة مع الكمال الاستهلاكي. وهو حضور منسجم مع الاستعداد الذهني العالي ليعقوب الذي يعقب بطولة اعلى مسلسل سعودي تكلفة في التاريخ، ببطولة فيلم مستقل قصير لا يحمل أيٍ من مقادير الرواج الجماهيري. 

وجاء اداء ام كلثوم سارة بارد، لافتاً في دور الحبيبة السابقة. لقد وقفت بثقة امام ممثل يفوقها في التجربة، وقادت بوصلة المشاعر في المشهد. كانت تتنقل بتناغم بين فرحة الوصال ومرارة الحرمان، بين بقايا الحب ولواعجه، بين رقة العبارة وسلاطة اللسان — وكله في حيّز حركي محدود بضيق درج العمارة. 

التصوير السينماتوغرافي، من السعودي حسن سعيد، كان لافتاً بكادرات متوازنة، وشخصية بصرية ناضجة للفيلم. عاونت الكادرات واسلوب الاضاءة، تركيب الفيلم ليخرج في تلك الخفة الآسرة. 

هناك مشاهد أخرى مميزة كتركيب عناصري، مثل مشهد البطل الذي يحاكي حبيبته السابقة عبر جهاز الانتركوم. لقد بدا وكأنها تنطوي على بذرة، رغبت لو تم البناء عليها بشكل اوسع. 

لما قرأت في نشرة الترويج للفيلم ان اسمه مأخوذ من قصيدة لشاعر عراقي معروف.. “تحسست مسدسي” كما يقولون. توجست لوهلة ان يصطف الفيلم مع خط التجارب القصيرة القادمة من نفس المكان، والتي تسرف في التقعر الفني والاستعراض التجريبي.. لكن فيلم علي سعيد كان معتداً بذاته وخفيفاً، وتوظيفاته الثقافية جاءت ضمنية وغير فجة. 

بعيداً عن بروتوكلات الصوابية النقدية وحفلات المديح السافر التي تنطبع بها احداثنا السينمائية.. هذه تجربة مستقلة تستحق الاحتفاء. الأخوة سعيد عبر شركتهم (ثرو ذا لايت) يستعلنون حالة جادة للانتاج السينمائي الوطني في بلادنا. تجارب وكيانات ستسمق في وقت وجيز لو جير لها الدعم المنهجي الجاد.

* هذا النقد يخص النسخة الاخيرة، وهي غير النسخة التي عرضت في افتتاح مهرجان الافلام السعودية بالدمام – وقد تلافت كل هنّاتها الايقاعية والمونتاجية، وعلى مستوى انهاء القصة. 

هذا المنشور نشر في مٌباشرة للتدوين. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق