العائدون من الابتعاث، مؤسسات المجتمع المدني.. ووزير الداخليّة !

كتب: محمود عبدالغني صباغ

انطلق الابتعاث في العهد السعودي الى مصر في عام 1927.

ومع حلول عام 1946م، كانت مجاميع غير متواضعة من طلائع هذه البعثات قد عادت للبلاد وبدأت في الانخراط في سلك الحياة العملية، حاصلين على الشهادات العالية في الطب والهندسة والزراعة والعلوم التطبيقية والعلوم الإسلامية والآداب واللغات الأوروبية.

وفي عام 1951م تنادت طائفة من أؤلئك الشباب المُثقف خريجي الجامعات المصرية من السعوديين، بلغ عددهم خمس وعشرين شخصاً، الى اجتماع عام في حارة جياد لاتخاذ قرار اطلاق مؤسسة مدنيّة تصلهم بتطلعاتهم صوب غاية: تعليم “الشعب” !

ومن هنا اطلقوا اسما معبراً على مؤسستهم الجديدة: المؤسسة السعودية للثقافة “الشعبية”.

كانوا: أحمد شطا .. عبدالله الدباغ .. حامد دمنهوري .. حامد هرساني .. حسن نصيف .. جميل الحجيلان.. حسن شطا .. عبداللطيف جمجوم .. أحمد صلاح جمجوم .. أسعد جمجوم .. عبدالله بغدادي .. صالح جمال حريري .. سعيد آدم .. حسن بابصيل .. زين العابدين فطاني .. علي حسن غسّال .. عبدالله أبوالعينين .. محسن باروم.. وانضم لهم لاحقاً: حسني بخش.. محمد سعيد بصراوي.. عبدالله حبابي.. عبدالعزيز داغستاني.. وجميل ابوسليمان.

اتفقوا على ان تكون رئاسة الهيئة الادارية لأحمد شطا، فيما تم اسناد الأمانة العامة (السكرتارية) لمحسن باروم.

وفي يناير 1952 اجتمع الشبيبة مع وزير الداخلية آنذاك: عبدالله الفيصل.. الذي حضر اجتماعهم العام بفندق بنك مصر بأجياد مكة. وطلبوا منه في اجتماع واسع تصريح الدولة لجمعيّتهم المدنيّة الوليدة.

من صحيفة أم القرى: حفل اطلاق “المؤسسة السعودية للثقافة الشعبية” – احد جمعيّات المجتمع المدني الرائدة في مكة. استضاف الشباب المثقف وزير الداخلية واستأذنوه في اصدار تصريح.

لقد ارادوا اطلاق مؤسسة تعني بالتنمية البشرية عبر توسيع رقعة التعليم والثقافة بين طبقات الشعب والعاملين والفئات الأقل حظاً. فكانت المؤسسة السعودية للثقافة الشعبية في أصلها مدرسة شعبية تعني بتقديم تعليم مسائي موازٍ بغرض تمكين المنسوبين في العلوم الادارية والتجارية والمعارف العامة.

واعلنوا ان اختيارهم وقع على هذا الاسم نظراً لاستقلاليتهم التامة عن مناهج وزارة المعارف.

وتمحورت أهداف الجمعية حول: مكافحة الأمية، تعليم الكبار، اعطاء دروس تقوية اضافية خيرية لطلاب المدارس المعوزين لرفع مستواهم العلمي في اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والرياضيات والعلوم الإجتماعية.. قبل ان يتوسّعوا في برامجهم الطموحة ليساهموا في تأسيس مدارس خيرية، والى ريادة تأسيس مدرستيّ رياض اطفال في مكة وجدة، ثم اتبعوها بثالثة في الرياض، وفي تصميم برنامج دبلوم ادارة أعمال واقتصاد في مكة يمنح للكبار المتجاوزين للسن النظامي للتعليم.

وركزّت المؤسسة على تدريس مبادئ اللغة العربية والطباعة باللغتين العربية والانجليزية ومبادئ المحاسبة مع التركيز على منهج اللغة الانجليزية – حتى باتوا أول من اهتم بتعليم اللغة الانجليزية بشكل مؤسسي في مكة!

كان الأعضاء، ينطلقون من عقيدة الكفاح السائدة، فيشاركون بأوقاتهم ومعارفهم التي اكتسبوها في مصر، لتدريس الصفوف المسائية على أساس تطوعي بحت- فكان كل عضو يقوم بتدريس الطلاب بحسب تخصصه العلمي ووفق برنامج زمني صارم ومحدد.

واتفق الأعضاء على أن يتبرّع كل فرد منهم باقتطاع 2,5% من مرتبه الشهري لتمويل صندوق المؤسسة وتمكينها من مواجهة متطلبات التشغيل والتقنيات الادارية – علماً بأن المرتب الشهري الذي كان يتقاضاه خريج الجامعات آنذاك أربعمائة وعشرين ريالاً، وكان لا يكاد يغطي احتياجات المعيشة.

يقول السيّد محسن باروم، سكرتير المؤسسة في بدايتها، والذي كان يعمل مفتشّا في التعليم في الوقت ذاته: “لقد كلفت نفسي فوق طاقتها العقلية والجسمانيّة ولكنني كنت سعيداً الى أقصى غايات السعادة بأن أقوم بهذه الواجبات كلها مجتمعة بنفس راضية وأعصاب هادئة ومشاعر متقدمة لخدمة الوطن والمواطنين تعبيراً صادقاً عن حقيقة الانتماء الوطني لهذا الكيان..” (في موكب الزمن، ص١٠٢)

كانت الدروس تنعقد مساءً في مقرّ مدرسة تحضير البعثات بحارة القُشاشية بجوار باب علي، رحم الله أطلالها، وكان يتولى إدارتها آنذاك الأستاذ والمرّبي عبدالله عبدالمجيد بُغدادي – وكانت تقوم على مدار خمسة أيام من كل اسبوع.

الأستاذ جميل أبوسليمان – يعطي احد الدروس الخيرية المسائية في احد صيفيات الطائف بمقّر دار التوحيد.

واتخذت الأمانة العامة للمؤسسة مقراً في مبنى مدرسة تحضير البعثات.. ثم بعد انتقال المؤسسة الى جدة شغلت جزءاً من بيت اللامي بحارة الشام قبل ان تستقر في مقرها الدائم في حارة الجماجمة بالبغدادية.

لقد تخرّج من برامج المؤسسة أسماء لها قيمتها فيما بعد، منها: عبدالمجيد مهندس ومصطفى أبو زنادة وحامد مطاوع وعبدالله باصفار ويوسف شربتلي وعبدالعزيز أبو زنادة ومحمد إبراهيم جدع وعبدالرؤوف جمجوم الصغير.

 وبعد فترة طويلة من العمل الدؤوب وتناسل قصص النجاح اعلنت وزارة المعارف عن اعتنائها بالفكرة التي تقوم عليها المؤسسة. حتى ضمّت تجربتها تحت لوائها الرسمي، فأنشأت قسما مختصاً بتعليم الكبار ومكافحة الأمية تحت اسم “الثقافة الشعبية”، أسندت ادارته للأستاذ عبدالله بُغدادي.

1952: كان الدكتور الشاب عبداللطيف جمجوم، العائد لتوّه من الابتعاث، يعمل صباحاً في عيادته، ثم يدّرس مساءً عبر برامج المؤسسة السعودية للثقافة الشعبيّة ما تيّسر من العلوم الطبيعية والأحياء

وتوّج الشباب المؤسس مسيرتهم العملية: فاستحال ستة من أؤلئك الشباب وزراء دولة، ونفر منهم تسلّك في سلك السفارة، ونفر آخر شغل مناصب رفيعة في مؤسسات الدولة، فيما قاد غالبيتهم مسيرة التربية والمعارف والتعليم العام في أزهى مراحلها الذهبيّة.

سقى الله أياماً لم يضنّ فيه الشباب المثقف بمعارفهم على أقرانهم وأبناء جلدتهم، ولم تضّن فيه السلطات بالتصاريح اللازمة التي تمّكن المجتمع المدني من النهوض والقيام بأدواره الوطنية العامة.

هذا المنشور نشر في مٌباشرة للتدوين. حفظ الرابط الثابت.

9 Responses to العائدون من الابتعاث، مؤسسات المجتمع المدني.. ووزير الداخليّة !

  1. دائماً ما تذهلنا بمعلوماتك واطلاعك الواسع-ما شاء الله-.
    ألا تفكر جدياً في إقتحام عالم تأليف الكتب يا مولانا؟..
    مع كل الإحترام والتقدير ولكن تدويناتك تستحق أن تكون مراجع!!..

  2. ﻻﻭﻝ ﻣﺮﺓ ﻣﻦ ﺯﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﺟﺪﺍ ﺍﺗﺬﻭﻕ ﻭﺍﺟﺪ ﻃﻌﻢ ﻭﺍﺭﺋﺤﺔ ﺗﺪﻭﻳﻨﻪ ﺑﻌﺒﻖ ﻭﻟﻮﻥ ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺍﻭ ﺗﺪﻭﻳﻨﻪ ﻗﺪﻳﻤﻪ, ﺭﻭﻋﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺮﺩ ﻭﺍﺗﻘﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻻﺭﻛﺎﻥ ﻭﺍﻻﺳﻨﺎﺩ ﺍﻥ ﺩﻟﺖ ﻋﻠﻰ ﺷﺊ ﻓﻬﻲ ﺗﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﻣﺪﻯ ﺍﺣﺘﺮﺍﻡ ﺍﻟﻜﺎﺗﺐ ﻟﻤﺘﺎﺑﻌﻴﻪ.. ﺍﻗﻒ ﻟﻚ ﺍﺣﺘﺮﺍﻣﺎ ﻭﺗﻘﺪﻳﺮﺍ ﻭﺷﻜﺮ ﻟﻚ

  3. hussain bin ali كتب:

    موفق دائما فيما تنقله الينا من أخبار ارشيفية تعيد لنا ذكرى الماضي الجميل.

  4. WordzWizard كتب:

    تفرحنا دائما برحلات بساط الريح…نعبر التاريخ في بضعة أسطر جميلة..شكرا

  5. شكراً ايها الاصدقاء..

  6. Shadi كتب:

    أنا من متابعي بروفيسور تشومسكي بإستمرار وتعرفت على حضرتك من خلال المقابلة التي اجريتها انت واثنين اخرين مع تشومسكي..كنت أخطط لأكون أول سعودي يقابل تشومسكي ويتحدث معه..لكنك سبقتني..إذا كانت لك زيارات لكندا فإني أتشرف بمقابلة حضرتك..أو ربما إن كانت لك أي نشاطات خلال الصيف بجدة فأرجو إطلاعنا بها

  7. Shadi كتب:

    ماهو التأثير وشكل الدور الذي تتوقع أن يلعبه مبتعثين اليوم بعد الرجوع للوطن مستقبلا فيما يتعلق بتطوير مؤسسات المجتمع المدني، وماهو الدروس التي قد يمكن تعلمها من مبتعثين الماضي وتجربتهم في هذا المضمار كي ننجح نحن مبتعثين اليوم في صنع موسسات مجتمع مدني اكثر صلابة؟

  8. مروان يوسف كتب:

    التأثير الحجازي في النهضة العلمية والحضارية كان واضحا منذ نشوء الدولة السعودية وتوحيد الممكلة هنيئا لنا نحن أهل مكة والحجاز هذه الريادة التاريخية

  9. HAMZA MOSHRIF كتب:

    هل نرى من جيل المبتعثيين الجدد مثل هذه المؤسسات التطوعية؟ أتمنى تبني الفكرة ونشرها

أضف تعليق